مصادر المعرفة في فقه الواقع

ضمن سلسلة الموضوعات الجديدة التي تعالج تعريف فقه الواقع كمبحث جديد نحتاج لتأسيسه كعلم مستقل، تأتي قضية ما هي مصادر المعرفة في فقه الواقع؟ وقد تم سابقاً التطرق بشكل أو بآخر لهذا الموضوع، لكن في هذا المقال سنحاول تقديم معالجة وتغطية له بشكل شامل قدر المستطاع وبشكل أوسع من الموضوعات السابقة. فما هي مصادر معرفة الواقع؟ وهل يُؤخذ فقه الواقع فقط من الكتاب والسنّة؟ أم فقط من الواقع العملي؟ وما هي أهمية القراءة أساس فقه الواقع والتحليل السياسي الناجح؟ وما هي أهم الأمور لمعرفة الواقع بشكل صحيح؟ وما هي أصناف الناس في معرفة الواقع؟

مصادر المعرفة في الإسلام

بالرغم من كونه موضوعاً متشعباً للغاية، إلا أن الهدف من هذا المقال محاولة الاختصار، حيث تتميز المعرفة في الإسلام بشمول المصادر وعدم جواز إغفال أي مصدر معرفي قادر على تقديم المعرفة الصحيحة، وهذا بعكس كثير من الأديان والفلسفات حول العالم، بل وحتى المنهج العلمي المعاصر الذي يغفل الوحي والغيبيات بحجة تجنب الخرافات. وبالإضافة إلى ذلك، فقد حارب الإسلام كافة أنواع وأشكال الأوهام والخرافات ودعا إلى نبذها ومحاربتها، سواءً تعلقت بالمشاهدات الحسية أو بالغيبيات، والإسلام هو المنهج المعرفي الوحيد القادر على تمييز المعرفة الغيبية الصحيحة وإثباتها بشكل دقيق وتمييزها عن الخرافات في عالم الظواهر الماورائية الغامضة.

فقد دعا الإسلام إلى إعمال العقل والتفكر، كما أنه لم يغفل المشاعر والعواطف وأهمية موازنتها مع العقل، ولم يكتف مثل الفلسفة فقط بالنظر العقلي، الذي رغم فائدته الجمة، فهو سهل الوقوع في المتاهات الفلسفية البعيدة، ولذلك قرنه بالتجربة والحس والمشاهدة. ومع ذلك، لم يقتصر على يمكن أن تدركه الحواس البشرية، حيث يعترف العلم الغربي الحديث بوجود العديد من الظواهر الغامضة التي لم يتمكن من التعامل معها فقام بتصنيفها على أنها غير خاضعة لسلطان المنهج العلمي، أما الإسلام فقد أتاح الكثير من المعارف الغيبية التي هي ضرورية جداً لحياة إنسانية متزنة، حيث يستطع المرء الشعور بالطمأنينة إلى وجود خالق ومدبر لهذا الكون، وقطعية وجود اليوم الآحر للفصل النهائي بين الخلق وغيرها من قضايا غيبية في غاية الدقة والأهمية.

معرفة الواقع والوحي

تعرف معرفة الواقع بشكل خاص في الإسلام بأن مصادرها هي من الواقع نفسه كالحس والمشاهدة وباقي المصادر، ونجد أن الوحي قليلاً ما يتعرض إلى أمور الواقع بالتفصيل، بل إنه يرشد المسلم إلى ضرورة أن يستقي فقه الواقع من الواقع، ففي الحديث الشريف المتعلق بتأبير النخل إشارة صريحة إلى أنه “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، مما يعني أن الوحي المتمثل بالكتاب والسنة لم يتنزل بهدف بيان هذه الأمور بالتفصيل، ولكنه تنزل لتفصيل أمور أعظم من ذلك.

فإذا كان القرآن قد تطرق أحياناً لبعض العلوم الكونية والدنيوية فيكون ذلك أحياناً من باب التفكر في عظمة الله وبديع صنعه، وأحياناً يكون لبيان واقع بعض الأمور الاجتماعية التي تستعصي معرفة حقيقتها على طرق المعرفة الأخرى، كما احتوى على لمحات منهجية كثيرة مثل ضرورة التحقق من الأخبار كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]، بالإضافة إلى التأكيد على خطر اليهود والذين أشركوا بشكل عام على المسلمين. وفي الخلاصة فقد أرشدنا الله تعالى إلى كيفية التعامل مع الوحي في أمور الواقع، ففي قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [البقرة:189].

فهي آية دالة بشكل واضح بأنه ليس من البر محاولة معرفة واقع الأهلة من الوحي، وإنما بالأساليب العلمية المعروفة. وأحياناً يحتج البعض بقوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) [الأنعام:38] للتأكيد على رؤيتهم بفهم الواقع من الوحي مباشرةً، لكن المفسرين أشاروا إلى أن المقصود بالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، وإذا كانت تشير للقرآن فالمقصود هو أن القرآن يحتوي على المنهج الذي يدل على مصادر معرفة فقه الواقع وليس الواقع ذاته! إذ من الواضح أن القرآن والسنة لا تكفيان لبيان واقع كل شيء من جميع العلوم والمعارف التي يحتاجها البشر، وأخيراً فإن الآية الكريمة: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” [فصلت:53] توضح أن معرفة الواقع تظهر في الآفاق من حولنا، بل وأن معارف الآفاق ستكون شاهداً على صدق رسالة الإسلام والقرآن.

كثرة القراءة مهمة في فقه الواقع

والمقصود بالقراءة هو كل ما يمكن قراءته سواء من الواقع مباشرة بالتجربة والملاحظة أو بالوحي، وبالأخص قراءة ما تمت كتابته وتناقله، حيث إن المعارف والخبرات البشرية بمختلف أنواعها بما في ذلك ما وصلنا عن طريق الوحي، جميعها تحتاج للكتابة والتخزين والتوثيق بهدف حفظ هذه المعرفة والبناء عليها، ومن غير القراءة، فإنه محكوم على البشر أن يكونوا مثل باقي الحيوانات التي يقوم كل جيل فيها بإعادة اختراع العجلة من جديد، أي يقومون مرة بعد أخرى منذ ملايين السنين بقضاء أعمارهم في إعادة تعلم نفس المهارات والخبرات التي تعلمها أسلافهم من غير أن يتمكنوا من إضافة أي شيء جديد، فهذا مما تميز به البشر عن غيرهم، كما ويُعتبر تاريخ اختراع القراءة والكتابة هو بداية التاريخ البشري.

ومما يثير العجب أن أولى كلمات القرآن نزولاً كانت هي كلمة “اقرأ” في سورة العلق للتأكيد على هذا المنهج وهذه الحقيقة الأساسية، فالكتابة والقراءة هي أداة حفظ الوحي والدين، وأيضاً لنقل الخبرات والتجارب والبناء فوقها، كما أنها مقترنة بكرم الله تعالى لمن يقرأ أكثر بقوله تعالى: “اقرأ وربك الأكرم” [العلق:3]، وليس من الخفي أن الأمم التي تقرأ أكثر تكون أكثر تقدماً بوضوح على الأمم البعيدة عن القراءة والعلم والثقافة، بدءاً من اليونان ومن سبقهم من شعوب بلاد الرافدين وانتهاءً بالعصور الحديثة، حيث تم اختراع الطباعة وانتشر الكتاب ثم ظهرت شبكة المعلومات (الانترنت) التي أوصلت البشرية إلى ذروة القراءة والكتابة، وليس من المستغرب أن يكون محرك البحث العالمي (غوعل) هو صاحب الرقم واحد عالمياً في عدد الزيارات لكونه متخصصاً بفهرسة القراءة ومساعدة الناس على معرفة أفضل المواقع والكتب المناسبة ليقرأوها.

زاهر طلب
4/21/2021

Scroll to Top