مصادر معرفة الواقع

بما أن فقه الواقع معتبر لصحة الاعتقاد والتصورات وما يترتب على ذلك من صدق في الأقوال وصواب في الأعمال. فمن الواجب أخذ هذا الفقه معرفة الواقع من مصادره الصادقة المعتبرة، وأول هذه المصادر صدقاً الوحي بشقيه القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة النبوية الصحيحة، وهما منهج للحياة البشرية الكريمة الصالحة، سواء كان ذلك من جهة علاقة العبد بخالقه، أم علاقة العبد بالعبد، أم علاقته بالكون، وعلى الرغم من ذلك فقد ترك الوحي أموراً من الواقع، وخاصة فيما يتعلق بعلاقة العبد بالعبد أو علاقته بالكون لتقدير الناس للوصول إلى معرفة حقائقها. فقد أكد القرآن على ضرورة التحري عن أخبار الفساق قبل ردها أو الأخذ بها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]

وهذا التحري له طرقه ومصادره وأساليبه، وهو متطور مع الزمن لتطور أساليب الدجل والعمل الجاسوسي المنظم، فَتَرَكَ أمره للناس ولأفهامهم. وفي علاقة العبد بالكون، فقد أرشدنا الله تعالى إلى أدب آخر في التعامل مع الوحي كما في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [البقرة:189].

فقد جاء قوم وسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأهلّة، فأجابهم الوحي بعلاقتها بالمواقيت والحج فقط، ثم ردّ عليهم قصدهم الذي أرادوا منه معرفة ما وراء ذلك، كطبيعة القمر وخصائصه ومكوناته من خلال الوحي، فقال: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا(، بل أمرهم لمعرفة حقيقة القمر الكونية بأن يأتوا البيوت من أبوابها، أي: أهل العلم المتخصصين، قال تعالى: )وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)، لأن القرآن الكريم لم يتطرق إلى بيان كل الحقائق العلمية والسنن الكونية عن الكون إن كان فيه ما يدل على ذلك، ولو قصد ذلك لاحتاج الأمر إلى أضعاف أضعاف عدد آيات القرآن الكريم، فَرَدّ أمر معرفة ذلك إلى أهل والعلم والاختصاص: )وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا(. ولذا قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت:53]. أي بالعلم بالبحث والتنقيب.

وقد يحتج بعضهم، بقوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) [الأنعام:38]. لفهم الواقع كله من خلال الوحي: القرآن والسنة فقط. وهذه الآية لا تدل على مرادهم، فالمقصود بالكتاب: هو أم الكتاب، أو اللوح المحفوظ. قال الطبري في تفسيرها بسنده عن ابن عباس: “ما تركنا شيئاً إلا قد كتبناه في أم الكتاب”. وقال القرطبي: “أي في اللوح المحفوظ”. ومما يدل على صحة هذا التأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: ما أكتب قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد” ([1]) . ومن الأدلة على أن معرفة العبد لواقع هذا الكون، ليست محصورة بالوحي فقط، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بأمر دنياكم” ([2]). ونص الحديث بتمامه:

“أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يلقحون فقال: لو لم تفعلوا لصلح قال: فخرج شيصاً فمر بهم فقال: ما لنخلكم قالوا: قلت كذا وكذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم” ([3]). مع أن القرآن الكريم قد أشار إلى إحدى وظائف الرياح: (التلقيح)، أي تلقيح أزهار النباتات، كما في قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) [الحجر:22]. لكن هذه السنة الكونية لا تصلح لتأبير النخل، وعُلم ذلك من الخبرة: الدراسة والتجربة.

وعليه فإن الاعتماد على الوحي في معرفة ما يتعلق بقوانين الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات أو صناعة المتفجرات والقنابل النووية والكهرباء وغير ذلك يعتبر من الجهل الذي لا يقول به عاقل، ويدخل في ذلك كذلك أخبار الفرق والأحزاب والمذاهب وما اتفقت عليه، وما اختلفت فيه وأخبار الدول والملوك والأمراء والرؤساء والساسة والأفراد. ومن المؤسف أن يحمل البعض قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بأمر دنياكم” على فراسة المؤمن، ففيه تعطيل واضح، بل قتل لمادة البحث العلمي لاكتشاف أسرار هذا الكون!!!

تابعوا الموضوع القادم:

أصناف الناس في معرفة الحقيقة

————————

(1) تخريج السيوطي : (ت) عن عبادة بن الصامت. تحقيق الشيخ الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: (2017) في ((صحيح الجامع)).

(2) تخريج السيوطي: (م) عن أنس وعائشة. تحقيق الشيخ الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: (1488) في ((صحيح الجامع)).‌

(3) مسلم برقم (2363).

Scroll to Top