إن من أخطار الكذب وأساليبه الوضيعة سياسة التشهير بالمعارضين، فبعض الخصوم من اليهود وأفراخهم أمثال الشيوعية والشيعة الإمامية، لا يَقْدِرون على مواجهة الحق بالحجة والبيان، فتجدهم يسارعون إلى التشهير بالخصوم، وخاصة أهل العلم لتنفير الناس من الحق والحقيقة التي ينتهجون. فيبقى سوق باطلهم وإفكهم رائجاً، ومصالحهم الموهومة والمزعومة قائمة. وقد استُخدِم هذا الأسلوب الحقير منذ زمن بعيد، فقد اتّهَمَ المعارضون لدعوة التوحيد أنبياءهم بشتى انواع التهم الباطلة، ومن صور ذلك:
الاتهام بالكذب والسحر والجنون والسفاهة: قال تعالى:)كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ( [الذاريات:52]. )فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ( [الذاريات:39]. )قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ( [الأعراف:109]. )وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ( [ص:4]. )قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( [الأعراف:66].
حادثة الإفك: تتمثل في التشهير والتنفير من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، من خلال اتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بِعِرْضِها وعِفّتِها. فقد تولى إشاعة هذه الجريمة زعيم المنافقين في المدينة المنورة، فأطلق سُمّها في أكرم بيت من البيوت على الله، ولم يَعْلم هذا المنافق، بل إنه يعلم أن في فعلته الشنيعة هذه طعناً في حكم الله سبحانه وتعالى وإرادته، الذي اختار عائشة الطاهرة زوجاً للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم. وعلى الرغم من فداحة هذه الجريمة النكراء، إلا أنّ الله سبحانه وتعالى وصفها بالخير، لما فيها من دروس وعبر عظيمة. قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ( [النور:11].
من هذه العبر:
تأخر نزول براءة عائشة رضي الله عنها لأكثر من شهر، وفي ذلك امتحان لردود الأفعال لدى المؤمنين. فالإشاعة كلما طال رواجها دون بيان زيفها، حصدت أكثر وجندت عدداً أكبر من المتشككين من الناس، وفي ذلك بلاء وتمحيص للإيمان.
تأثيم كل من ردد الإشاعة، ولزعيمها الأكبر العذاب العظيم، قال تعالى: )لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ( [النور:11].
على المسلم المسارعة في الذب عن عرض كل مؤمن عُلم صلاحه وتقواه يقيناً، وخاصة إذا كانت التهمة كبيرة ومستبعدة، ولا يجب عليه في هذه الحال التبين والتحقق من صدق الخبر انطلاقاً من قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ( [الحجرات:6]. فإن انتظار نتائج التحقيق لا يصلح في مثل هذا المقام.
لذا فقد أنّب القرآن الكريم المسلمين لعدم المسارعة إلى رَدّ الإشاعة وانتظار القول الفصل من الوحي، بل طالبهم بوصفه فوراً بإلاِفْك المُّبِين والبُهْتانِ العَظِيم، فالانتظار في مثل هذه الحال ليس في محله، وهو من الورع البارد الذي يؤدي إلى نتائج سلبية، قال تعالى: )لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ( سورة النــور(12). )وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ( [النور:16].
أثرت الإشاعة في مختلف درجات المؤمنين، منهم من خاض مع الخائضين، مثل حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش. ونقل الطبري بأسانيده اختلاف الرواة في الشخص الذي تولى كبره، على قولين:
الأول: هو حسان بن ثابت والثاني: عبد الله بن أبي بن سلول، ورجح الطبري الثاني حيث قال: ((وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: الذي تولى كبره من عصبة الإفك كان عبد الله بن أبي، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أنه الذي بدأ بذكر الإفك)) أ. هـ.
ومن الصحابة ـ علي رضي الله عنه ـ ممن نصح النبي صلى الله عليه وسلم بطلاق زوجه، ومنهم من توقف في الأمر ظاهراً، وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم.
ولعل قول عائشة لمن حضر من المؤمنين، وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمّها أم رومان: ((والله لئن حلفت لاتصدقوني، ولئن قلت لاتعذروني، مَثَلي ومَثلكم كيعقوب وبنيه، والله المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف ـ أي النبي ـ فلم يقل شيئا)). وهؤلاء الذين تناقلوا الخبر بألسنتهم أثموا فيما قالوا. قال تعالى: )لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(. أما ابن سلول فقد تولى كبره.
من هذه الحادثة يجب أن لا نستبعد خوض بعض الخِيَرَة من المؤمنين بالباطل، وإذا حصل فعلينا أن لا نغتر بقولهم، وأن لا نشهر بهم، بل ننصحهم بالحكمة لا بالتجريح والتقبيح. فها هو شاعر الدعوة حسان بن ثابت، قد لوثته الإشاعة، والإشاعة إذا تكررت تقررت، وظنها الناس حقيقة، وأسلوب تكرار الإشاعة مع الزمن، من أمضى الأساليب التي يستخدها المغرضون.
الإشاعة سلاح الجبناء، وهي لا تفرق بين صالح وغيره، بل إن مقصود الإشاعة عادة، النيل من الصالحين الصادقين الأمناء من المؤمنين، لذا فعلى المؤمن ابتداءً، أن يظن بكل من ظهر صلاحه خيراً، ولو توجهت إليه الإشاعة. أو أن يَغْلُبَ على ظنه صِدْقَ وأمانة من طالته الإشاعات وتكررت في حقه، سواء كان ذلك شخصاً أم جماعة أم دولة، ولا يجوز الاعتماد على هذه القاعدة كلياً، حتى يعززها بدراسة الأفكار والمعتقدات التي من خلالها سيعلم الحقيقة.
عدنان الصوص