صراحة وحدة الوجود في الكتابات الصوفية المتأخرة

*وضع الصوفية في العصور الأخيرة:

يقول محمد بهاء الدين البيطار([1]): نحمدك اللهم يا من صلى على محمد بفيض ذاته، فكان مجلى له في جميع تجلياته…وأشهد أن لا إله إلا الله ولا موجود في هذا الوجود إلا إياه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنسان عين ذاته وسر إمداداته([2])

– في مراحل من تاريخ المسلمين، وصلت المجتمعات الإسلامية بمساعي الصوفية وجهودهم المستمرة إلى أحط دركات الجهل والغفلة، حيث أخذ الأولياء العارفون الصديقون المقربون الطاهرون المطهرون الأبرار الواصلون المحققون المصطفون المحبوبون المؤيدون العالمون الموحدون خواص الخواص…، حيث أخذوا حريتهم الكاملة في البيان، وأرخوا لعباراتهم العنان، وباحوا بالسر المصان. وقد رأينا قول بعضهم: وحسبه.. إشراق نور وحدة الوجود. ولعل النص التالي يغني عن الإطالة وإيراد نصوص أُخَر.

يقول الشيخ عبد الرزاق القاشاني:

وبعد، فإن الزمان تقاصرت أذياله، وكادت ترتفع بانكشاف الحق أسباله، ونطق الحق على لسان الخلق بأسراره، وزهق الباطل بتشعشع أنواره، واقتضت الحقيقة أن تُهْتَك أستارها، وطفقت في كل سمعٍ يُحدث أخبارُها، أقبل علي جماعة من إخوان الصدق والصفا، وأرباب الفتوة والوفا، من أهل العرفان والتحقيق، ومَن أيدته العناية بالتوفيق، خصوصاً كالصاحب المعظم العالم العارف الموحد المحقق، شمس الملة والدين، قدوة أرباب اليقين…أن أشرح لهم كتاب فصوص الحكم…شارطين علي أن لا أكتم شيئاً من جواهركنوزه([3])…اهـ.

– والكتب الصوفية التي ألفت في القرن الثالث عشر الهجري وعدة قرون قبله، تحمل كلها، أو جلها، طابع التصريح الكامل بوحدة الوجود، وما يدور حولها من عقائد وفلسفات.

وجاء القرن الرابع عشر، وتوسعت الثقافة، وزاد فهم بعض المسلمين للإسلام، ولبعض أعداء الإسلام، ولبعض أمراض المسلمين، وفهموا بسبب الكتب التي ألفت في القرون السابقة، الكثير عن هذا السرطان الخبيث، وخطره ومكره، وأخذوا ينبهون عليه.

فأسرع (العارفون الصديقون الصادقون) إلى تقيتهم ورموزهم وألغازهم، وكلما توسع الوعي الإسلامي قليلاً، كلما زادوا في التعمية والغموض. والنصوص الأخيرة (في الموضوع السابق نقاش …) صور من هذه التقية الجديدة، التي أخذت تمعن في الغموض والتعمية، حتى وصلت إلى حد الكذب الجريء. كان القوم يستعملون فيما سبق العبارة والرمز واللغز والإشارة، أما في حاضرنا، فأخذوا يستعملون الإنكار؟!

وماذا عليهم؟ فالمهم هو (جلب الزبائن)، حتى إذا خضع الزبون للشيخ، وقام بالرياضات والمجاهدات والخلوات، التي تحقنه بالإيحاء الذاتي حقناً يملأ كل خليةٍ في جسمه، وطبق عليه شيخه الإيحاء الخارجي المستمر، حتى يصل إلى الجذبات، وتتجلى عليه التجليات، ويذوق من معاني الألوهية، أو يذوق على الأقل معنى اسم من أسماء الحق، عندئذ يُمْسون عارين، ولات حين؟؟

والذين لا يصلون، من الذين وقعوا في الشبكة، يُمسون، بتأثير الإيحاءات، أنصاراً مغفلين متحمسين، يدافعون عن الشيخ العارف، وعن الطريقة المجيدة، وعن السالك المريد…ويمهدون المنزلقات إلى الهاوية، ويغطونها بالألفاظ المنمقة، والأكاذيب الجريئة المزوقة…انتظاراً لصيد جديد، في يوم جديد.

وقد تطور هذا الأسلوب أكثر وأكثر، وصار أكثر جدة. وهذا الأسلوب الجديد، لا يخرج على القاعدة التي وضعها سيد الطائفة الجنيد، عندما قرر: لا يكون الصديق صديقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صديقاً أنه زنديق، وفي رواية: ألف صديق… ولا يخرج على قاعدة الجنيد عندما أفتى هو والشبلي بقتل الحلاج، وهما يعلمان أنه في الحقيقة ولي الله حقاً.

ولا يخرج على القاعدة التي وضعها أقطابهم وعارفوهم، والتي هي شرح لقاعدة الجنيد، والتي تقول: إن الصديق يعطي الظاهر- أي الشريعة – حكم الظاهر، ويعطي الباطن – أي حقيقتهم – حكم الباطن، وبالتعبير الآخر لا يلبس بالباطن على الظاهر ولا يلبس بالظاهر على الباطن. كما لا يخرج على القانون الأساسي للطائفة: إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه. وكما قلنا: المهم هو جلب الزبائن، وبعد ذلك يأتي التسليك، ثم يأتي الباقي.

في الموضوع القادم إن شاء الله عن أقوال الخميني في وحدة الوجود، وكذلك أقوال سعيد حوى في وحدة الوجود، وفيها تطور جديد في طريقة التقية.


([1]) محمد بهاء الدين البيطار الشامي الميداني، من شيوخ الطريقة الرشيدية، مات سنة (1314هـ).

([2]) النفحات الأقدسية، (ص:3).

([3]) شرح القاشاني، (ص:4).

Scroll to Top