فهم حكم الله في الواقع

كتاب الفقه السياسي

النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على  الآخر. فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً. فالعالم: من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه. وكما توصل سليمان صلى الله عليه وسلم بقوله: ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما، إلى معرفة عين الأم..))([1]) أهـ.

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار” ([2]).

ويقول (ابن القيم) محمد بن أيوب الزرعي، محذرا من تبعات التقصير في معرفة الواقع والشريعة:

“…هذا موضع مزلة أقدام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب. فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بها مصالح العباد، وسدوا على نفوسهم طرقاً عديدة من طرق معرفة الحق من الباطل، بل عطلوها مع علمهم قطعاً وعلم غيرهم بأنها أدلة حق ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع. والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر. فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث ما أحدثوه من أوضاع سياستهم، شر طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه.

وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافى حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء، ونفي غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بين ما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط، فهي من الدين، لا يقال إنها مخالفة له، فلا تقول: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به بل هي جزء من أجزائه. ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم وإنما هي شرع حق” ([3]).

تابعوا الموضوع القادم: مصادر معرفة الواقع


(1)        ((إعلام الموقعين)) (1/87- 88).

(2)        رواه أبو داود، وابن ماجة والترمذي وصححه الشيخ الألباني.

(3)        ((بدائع الفوائد)) (3/674-676)، ط/1، مكة المكرمة، دار الباز للنشر.

Scroll to Top