قراءة في كتاب جودت سعيد “حتى يغيروا ما بأنفسهم”

العنوان: حتى يغيروا ما بأنفسهم.
الكاتب: جودت سعيد
مطبعة دار الفكر المعاصر
الطبعة السابعة سنة1993
نور الهدى
يقول الله تعالى:”ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”(الأنفال:53).
اهتم جودت سعيد في كتاباته بالبحث في مشاكل العالم الاسلامي والأسباب التي أدت الى تدهور الأوضاع وتدني مستوى الوعي لدى العقل المسلم واقتراح الحلول المناسبة. كما أنه شديد الحرص على إعادة الحياة للكلمات والمفاهيم القرآنية كمصطلح التغيير والسنن… في كتابه “حتى يغيروا ما بأنفسهم” يرى الكاتب أن عملية التغيير تنطلق من أسس فكرية اذ لا تتأتى إلا بعد دراسة موضوعية تشمل اطلاعاً واسعاً وفقهاً للعالم وتغيراته تنتهي إلى إيجاد أجوبة دقيقة وعملية على الأسئلة والمشكلات التي تحير عقل المسلم كمشكلة الانفصال الذي يعيشه المسلم بين سلوكه وعقيدته وموانع إعطاء العقيدة ثمراتها. وهو المنهج الذي اتبعه إقبال والمودودي وسيد قطب في دراساتهم مما جعلها تحظى بالتقدير إذ كانت مميزة.
– ما هو التغيير؟ :
التغيير في نظر الكاتب هو كلمة عريقة في قرآنيتها وتعني إزالة ووضع. ويرى الأستاذ أن هذا المعنى يوحي بأنه ما فسد يمكن إصلاحه مع أن التغيير بعد التشكيل صعب. تغيير ما بالأنفس هو وظيفة البشر بينما تغيير ما بالأقوام الذي يمثل نتائج تغيير ما بالأنفس هو من الله. بينما السنن الاجتماعية ثابتة فـ “لن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلا”.
– كيف يحدث التغيير؟ :
تغيير الواقع في رؤية الكاتب لا تتم إلا بتغيير ما بالأنفس حيث يؤكد على أن كثيراً مما في أنفسنا يعطي حق البقاء والاستمرار لواقعنا. حيث أن القرآن الكريم يفسر ما يحل بالإنسان بالظلم الذي ينزله الانسان بنفسه. من هذا المنطلق يمكن لنا أن نعتبر أن المشاكل خاضعة لقوانين ومسببات يمكننا السيطرة عليها وتسخيرها عكس ما إذا كنا نرى أن هذه المشاكل لا يوجد لها تفسير وغامضة الأسباب فنكون بذلك ننتظر المهدي وأشراط الساعة كي يأتيا بالحل.
يضرب الكاتب مثلاً على ذلك المريض الذي يستسلم ولا يبحث عن أسباب مرضه وعن آخر يطلب من الطبيب أن يشخص له الأسباب التي هي وراء حالته تلك ومن ثم يصف له العلاج المناسب. كما شبه الرسول صلى الله عليه وسلم وحدة الأمة تارة بالبنيان المرصوص و تارة أخرى بأصحاب السفينة، سعياً منه عليه السلام إلى تقريب المعنى للأذهان فما أصاب هذا يصيب ذاك.
فعندما نعلم أن مشاكلنا خاضعة لسنن يمكن كشفها سوف يكون سلوكنا إيجابياً في الإقبال على العمل بجد لأننا واثقون أنه بإمكاننا حلها. ولا يمكن أبداً التغيير بالعنف فلابد من الإقناع لأن قانون النفس الإنسانية يقوم على الاقتناع لا الإكراه أو العنف.
– سنة التغيير في القرآن :
يرى الكاتب أنّ سنة التغيير في القرآن سنّة عامة تنطبق على كل البشر ولا تستثني المسلمين بدليل أن كلمة قوم نكرة تدل على العموم فالتغيير يستلزم أن ننظر إلى المشكلة كمشكلة مجتمع لا كمشكلة دين, أي مشكلة مسلمين لا مشكلة إسلام. حيث أننا نحتاج لأن نغير ما بأنفس المسلمين من النظرات الخاطئة عن الإسلام. ويرى الكاتب أيضاً أن سنة التغيير سنة مجتمع لا سنة فرد فهي تحتاج إلى مجتمع يطبق عليها كي يؤتي النتائج المرجوة وهذا يحتاج إلى وجود فئة من العقلاء تبحث في مشاكله وحلولها.
يضيف الكاتب أيضاً أن سنة التغيير سنة دنيوية لا أخروية حيث أن المحاسبة في الدنيا تكون جماعية عكس الآخرة حيث “لا تزر وازرة وزر أخرى”، أما المسؤولية الجماعية: ” واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب”(الأنفال25) حيث أنه تنزل المصيبة أو تحل النعمة بالأفكار السائدة في المجتمع فقد يسعد أفراد مقصرون في المجتمع السليم والعكس صحيح.
– الترتيب في التغييرين ومجال كل منهما:
يأتي تغيير الناس لما بأنفسهم أولاً ثم يتبعه تغيير الله لما بالقوم. من هنا يمكن أن ندرك أثر البشر ودورهم في صناعة أحداث التاريخ ومسؤوليتهم في ذلك حيث يقول الله تعالى “وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” (النحل:33)
يرى الكاتب ان مجال تغيير الله يكون في النعمة التي تشمل الصحة، المرض، الغنى، المودة… ومجال تغيير الأقوام علقها الله بما في الأنفس وتشمل الأنفس الأفكار، الظنون والمفاهيم…ومعرفة الانسان لهذا تمكنه من السيطرة على صنع التاريخ وتوجيهه حيث أن ابن خلدون أدرك أهمية ذكر أسباب ازدهار وسقوط الأمم حين اعتبرها الهدف الأساسي من رواية التاريخ.
اهتم القرآن الكريم بموضوع التعامل مع الأنفس لتغيير ما بها حيث بين أن عمل الله تعالى يشمل :”ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها” وعمل الانسان :” قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها” إضافة إلى ” حتى يغيروا ما بأنفسهم”. هذا يوحي بأنه يمكن أن توضع في النفس الأفكار ابتداءً كما يمكن أن يرفع ما فيها من مفاهيم ويوضع أخرى وهذا هو المهم في عملية التغيير.
– ما بالقوم نتيجة لما بأنفسهم:
“فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية”(المائدة:13) هذا يوضح أن الاستخفاف بالميثاق هو شيء أحدثوه في أنفسهم أدى الى نتيجة أن جعل الله قلوبهم قاسية.
الإنسان مسؤول عن أعماله بما يضع في نفسه من أفكار حيث يظهر أثر ما بالنفس ولو كان وهماً, لذا فعلينا أن نتخلص من الرؤية السطحية للأشياء وأن نجتهد في إدراك الأمور على وجهها الصحيح. حيث أنه يمكن أن يترسخ في النفس أفكار خاطئة تعمل عملها في اتخاذ القرارات في اللحظات الحرجة.
كان الإلحاح في القرآن لينظر الانسان إلى سنن الذين خلوا من قبل حيث تعتبر حسب نهج القرآن دعماً للبشر ومساعداً لهم في الابتعاد عن الوقوع في نفس الخطأ. إذا لم يتّعظ الناس من التاريخ يكونون معرضين إلى دفع ثمن جهلهم في الدنيا ومعرضين لخسارة النفس في الآخرة حين يقولون :”لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير”(الملك:10) فما يحدث للقوم مرتبط بما في أنفسهم.
– كيف يمكن أن نفسر حال المسلمين اليوم في ضمن قراءتنا للتاريخ؟ :
ولديهم أعظم حقيقة في الوجود “القرآن”. يرجع الأستاذ جودت اللوم إلى المسلمين أنفسهم وذلك تماماً مثلما أصاب اليهود والنصارى وهم يتلون التوراة والإنجيل، وذلك حين فقد المسلمون الاستفادة من ذخائر القرآن والسنة لفقدهم العلم الذي هو نتيجة لفتح البصر والسمع والفؤاد وإعمال العقل. وما إغلاق باب الاجتهاد لقرون طويلة وإحلال التقليد مكانه إلا دليل على ذلك، حيث أصبح العالم الإسلامي في رعب من إعمال الفكر والعقل الذي هو مفتاح التبصّر: ” قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين”(يوسف.108).
شغل العقل والسنن مساحة بارزة من القرآن الكريم ولا شكّ أن في ذلك حكمة حتى لا يفقد العقل قوته في إدراك سنن الحوادث والاعتبار منها. كما اعتبر الله تعالى الذين عطلوا عقولهم كالأنعام بل هم أضل.
– ماسبب تعطيل عقل الانسان؟ :
يرى الأستاذ جودت أن المصدر الأساسي في ذلك هو العقيدة العبثية في الوجود والكون :”أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم الينا لا ترجعون” (المؤمنون:115). حيث يعتقد الكاتب أن هذه العقيدة تمنع رؤية النظام والسنن في الكون وأننا قد توارثناها على مر القرون إن لم يكن باسمها فبمحتواها وهي التي ساهمت في شلل الفكر والعمل في العالم الإسلامي.
من خلال القرآن الكريم يستخلص الكاتب الآفات التي تتولد عن هذه العقيدة التي منها:
*الغفلة: “لهم قلوب لا يفقهون بها…..أولئك هم الغافلون” (الأعراف:179)
*الإعراض عن آيات الله وسننه:” وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون” (يوسف:105).
*التكذيب :”بل كذبوا بما لم يحيطوا به علماً”
*اتباع الهوى : حين يذهب العلم يبرز الهوى،” ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله” (القصص:50) ويقول تعالى :”وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم” (الأنعام:119).
*إتباع الآباء: سلطان الآباء يجب أن يقف عند حد معين لا يتجاوزه وإلا صار وبالاً ومصيبة ويظهر ذلك جلياً حين يضاف طابع العصمة والقداسة على أعمالهم حيث لا يمكن أن تخضع بعد ذلك لميزان العلم والتصحيح وهذا مناف للصواب. القرآن يدين إتباع الآباء عموماً أكثر من مدحه وذلك لم يكن عبثاً وإنما لكي يتجنب المسلمون الوقوع في نفس الخطأ.
قال تعالى :” وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا”.
– المنهج و التطبيق :
*جانب فصل القاعدة عن التطبيق:
يؤكد الكاتب على إلزامية التفريق بين النظرية والتاريخ، بين الإسلام كدين والمسلمين كتطبيق على اعتبار أن النظرية هي القاعدة والتاريخ هو التطبيق. هذا التفريق مهم في مجال تصدينا لبحث مشكلة تخلف المسلمين فلا نظن بعد ذلك أن كشف الخطأ في تطبيق المسلمين هو كشف لخطأ في الإسلام، يظهر ذلك جلياً في في كلام الله تعالى عن غزوة أحد وكشف أخطاء المخطئين. يفيدنا هذا النظر كذلك من جانب آخر على تقبل ما عند الآخرين من نظريات صائبة وتجارب ناجحة أياً من كانوا، حيث أن عدم بخس الناس وأشيائهم والعدل مبدآن قرآنيان.
* جانب تعميم السنة:
يرى الكاتب أنه من الواجب علينا إدراك أن السنن الاجتماعية تنطبق على جميع البشر دونما استثناء بما في ذلك المسلمين حيث أنه من الخطأ الاعتقاد بأن الدين الاسلامي مادام منزلاً من عند الله فهو يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية وغامضة الأسباب دون اعتبار لحالتنا واستعدادنا لحمل هم هذا الدين.
من كل ماسبق يتضح أنه على المسلمين اذا أرادوا أن يغيروا بحالهم نحو الأحسن فيجب أن يكونوا على استعداد لإلقاء الضوء على ما بأنفسهم ودراسة الأفكار التي تحملها وجوانب نقصها وتقصيرها بكل موضوعية وترك إلقاء اللوم على الآخرين.

المصدر:

قراءة في كتاب جودت سعيد “حتى يغيروا ما بأنفسهم”

Scroll to Top