في زيارة ايهود باراك اﻷخيرة لواشنطن بهدف التحضير لقمة نتنياهو اوباما، وبعد لقائه “ليون بانيتا” وزير الدفاع اﻷمريكي، قامت مصادر أمريكية بتسريب بعض ما دار في الغرف المغلقة و خصوصا ما قاله وزير دفاع ٳسرائيل في الشأن السوري.
باراك الذي سبق له وأن توقع قبل أشهر “سقوط اﻷسد خلال أسابيع….” وجد نفسه مضطرا ﻹيضاح موقف بلاده من المأساة السورية حين أصبحت اﻷمور أكثر جدية. باراك هو وزير الدفاع في حكومة ثلاثية الأحزاب طرفاها الآخران نتنياهو و ليبرمان. ألرجل كان قد أوضح أكثر من مرة قناعته الشخصية “أن لا مستقبل للأسد…”. لماذا ٳذاً أصر باراك على الطلب من واشنطن “بأن تخفف الضغط على اﻷسد خوفاً من البديل ” ؟
لفهم ما يبدو على أنه تناقض لا بد من وضع اﻷمور في سياقها فباراك شكك في ٳمكانات بقاء اﻷسد في أحاديث صحافية لا تشكل أي التزام سياسي. لكنه حين اضطر ٳلى التصريح بموقف رسمي كوزير في حكومة نتنياهو ، وجد نفسه يصطف مع ٳيران، روسيا و الصين وحزب الله… لو أن السيد حسن نصر الله أو أحمدي نجاد التقوا بالسيد “اوباما” لكان لهم حتماً نفس المطلب…
هذا الموقف اﻹسرائيلي الرسمي لا يقبل الالتباس ويتناغم مع موقف الجنرال “بني غانتس” الذي صرح “باستعداد ٳسرائيل لاستقبال لاجئين من الطائفة العلوية في الجولان المحتل ” وهو ما يشكل ضمانة لهذه الطائفة وتحريضاً لها لكي تلتصق بنظام اﻷسد مطمئنة “ٳلى أن ٳسرائيل مع اﻷسد ومن كانت ٳسرائيل معه فهو سينتصر…” بحسب قناعة هؤلاء الذين ربما نسوا مصير “سعد حداد ” وجيش لبنان الجنوبي حين تغيرت مصالح ٳسرائيل.
في مقابلة تلفزيونية مع “العربية ” بثت في تموز 2011 قال نتنياهو : “بأنه لا يقدر على التصريح بموقفه تجاه أحداث سوريا فهذا قد يؤدي لنتائج عكسية، لكنه يعتقد أن الشعب السوري يستحق أن يعيش بحرية وكرامة ” فماذا جرى كي يحزم نتنياهو أمره ويصوت لصالح بقاء اﻷسد ؟ هل اقتنع نتنياهو أن الطريقة الوحيدة كي يعيش السوريون بكرامة هي في ظل الأسد ؟ أم أن اﻷمر كان محسوماً منذ البداية ، لكن نتنياهو لجأ ٳلى “الغموض البناء ” دعماً للأسد بشكل خفي في بداية الثورة وبشكل فاضح لدى الحليف اﻷمريكي اليوم ؟
قبل الاستطراد في الموضوع ، لنلاحظ أن نتنياهو هو ليكودي قح ، من حزب بيغن وشامير وشارون، هو يميني متطرف لا يؤمن بالعيش بسلام مع العرب الذين يعتبرهم أنصاف بشر. ٳن هو تنازل وتحدث “للعربية” في الصيف الماضي، فهذه حملة علاقات عامة موجهة أساساً لدول الربيع العربي التي نجح مواطنوها في المطالبة بحقوقهم كبشر. بالنسبة له ، السوريون لا زالوا بعيدين عن هذه المنزلة وهم يبدون له أشبه “بالجراثيم ” على حد وصف اﻷسد، رجل نتنياهو في دمشق.
موقف حزب يمين الوسط ورئيسته “تسيبي ليفني” يبدو أقل وحشية و ينتقد دموية اﻷسد. باراك، وهو من “مستحاثات” اليسار اﻹسرائيلي والذي تحالف مع نتنياهو لكي لا يختفي حزب العمل من على الخارطة اﻹسرائيلية، يمثل وجهة نظر صهيونية “منفتحة” بالمقارنة مع الليكود كانت تطرح فكرة التعايش مع العرب ، لكنه تعايش على النمط الجنوب أفريقي ، تعايش السيد مع العبد ، القاتل مع الضحية وليس تعايش الجيران الند بالند.
ٳسرائيل خرجت إذاً من حالة الغموض وأوضحت موقفها الداعم لصنوها اﻷسدي، نظام الشبيحة الطائفي والعنصري في دمشق. زيارة نتنياهو الحالية لواشنطن جاءت إذاً لتؤكد طلبات إسرائيل وهي “الحفاظ على صديقها اﻷسد و المطالبة بضرب ٳيران…”. نتائج هذه الزيارة تجلت سريعاً في خطاب الرئيس اوباما اﻷخير الذي استجاب لرجاء إسرائيل واستثنى الخيار العسكري لصالح “عزل النظام الأسدي”. بالنسبة للطلب الثاني، يرفض الرئيس اوباما حتى الآن ضرب إيران.
الموقف اﻹسرائيلي الصريح والفيتو اﻹسرائيلي هو في المحصلة أساس صمود نظام الممانعة في دمشق وليس مماحكات مجلس اﻷمن ولا حتى مواقف الصين أو روسيا. ٳسرائيل تؤكد بموقفها هذا، للمرة المئة بعد اﻷلف، أنها تريد أن تعيش محاطة بمستنقع من الطغيان ودماء العرب ولا تريد سلاماً ولا من يحزنون.
ٳسرائيل تستحق بجدارة تزعم جبهة الممانعة والصمود والتصدي ، مثلها مثل حزب الله ومثل ٳيران أحمدي نجاد. هؤلاء الثلاثة ورابعهم نظام الشبيحة اﻷسدي لا يستطيعون العيش دون الولوغ في الدماء ودون التلويح بالحروب وٳضاعة فرص الشعوب في التقدم والعيش برخاء.
ما حاجة ٳيران للسلاح النووي وهي الدولة المنيعة والتي خرجت منتصرة من غزو صدام لها ومن كل صراعاتها الٳقليمية ؟ ما حاجة ٳسرائيل لتكديس السلاح التقليدي والنووي في حين أنها محاطة بأنظمة صديقة أو عميلة ؟ ما حاجة حزب الله لحمل السلاح ضد الدولة اللبنانية في حين لم يبق للبنان أرض محتلة ؟ الدولة الوحيدة التي لها أرض محتلة وكرامتها مهانة هي سوريا التي وجهت جيشها العرمرم ضد شعبها وليس لتحرير أرضها المحتلة !
هل هي ٳذاً مهزلة يضحك بها هؤلاء على الشعوب ؟ ربما ، ٳذ كيف نفسر “فزعة ” ٳسرائيل لنجدة “عدوها ” اﻷسدي و تقديم الدعم له وكيف نفهم تصريح الشيخ “صبحي الطفيلي” الذي قال إن “التحالف مع ٳسرائيل وارد ٳن احتاج اﻷمر …”.
قياساً على ما سبق ، لا يبدو وارداً أن تتورط ٳسرائيل في حرب حقيقية مع نظام “زميل ” في طهران أو في دمشق أو حتى مع حزب الله ما لم يتحرش بها هذا اﻷخير لغاية في نفس يعقوب.
أي حرب فعلية بين هؤلاء سوف تضعف المتحاربين وتفضح لعبة تقاسم اﻷدوار ومهزلة الصراع “الاورويلي ” القائم في المنطقة. هذا الصراع الذي يخدم قوى الطغيان والنخب الفاسدة في هذه اﻷنظمة كلها.
من جهة أخرى ليس هناك من مانع لدى ٳسرائيل أن تقوم أمريكا بالعمل القذر بدلاً منها وأن تضرب ٳيران وتدمر مشروعها النووي لكي تبقى ٳسرائيل “اﻷزعر” النووي الوحيد في المنطقة. هكذا تكسب ٳسرائيل من صراع اللاعبين الآخرين ٳيران وأمريكا دون أن توسخ يديها أو تتورط في حرب مكلفة.
قد يقول قائل : وفق هذا المنطق، من مصلحة ٳسرائيل أن تضرب أمريكا اللاعب الثالث سوريا وهكذا ينخفض سعر هذا النظام ويزداد طواعية ﻷمر السيد الصهيوني، فلماذا تمنع ٳسرائيل أمريكا من ٳزاحة اﻷسد ؟
الجواب هو أن النظام السوري لم يعد لاعباً منذ زمن ، بل هو نظام مستباح ووظيفي يلعب دور منطقة عازلة أو محايدة بين النفوذين اﻹيراني واﻹسرائيلي ويؤدي للاثنين منافع جلى. سوريا بشار اﻷسد تؤمن ستاراً عربياً للنفوذ اﻹيراني و تلعب دور حصان طروادة لطهران. في نفس الوقت يبقى نظام الأسد حارساً لحدود الاحتلال و”رجل المهام القذرة” ﻹسرائيل. اﻷسد يمسك بالورقة اللبنانية والفلسطينية ويتدخل في الشؤون العراقية لصالح سادته وهو يحرس حدود ٳسرائيل الشمالية بإخلاص منذ 1974 ٳضافة ٳلى مساهمته في تمزيق الصف العربي والفلسطيني.
أيضاً خطابات اﻷسد وأحمدي نجاد “الحربجية” و ممانعتهما الفارغة تؤمن استمرار حالة الحشد في ٳسرائيل و تغطي تسلط نخبة عسكرية – اقتصادية فاسدة على الحكم في الدولة العبرية “بحجة حالة الحرب “.
سقوط النظام السوري سوف يضعف النفوذ اﻹيراني ويهدد فرص معسكر “أحمدي نجاد” والمحافظين في الاستمرار بالسيطرة على مقدرات الشعب اﻹيراني، لكن مصالح ٳسرائيل مع نظام الممانعة اﻷسدي لا تقل عن تلك اﻹيرانية ، فسقوط نظام اﻷسد سيحرك المياه الآسنة في مستنقع حالة اللا حرب واللا سلم المناسبة ﻹسرائيل ويجبر نخبها على خيارات مؤلمة تتعدى الجولان ٳلى القبول بالعيش المشترك والمتساوي مع العرب في منطقة واحدة. باختصار، سيصبح السلام الحقيقي ممكناً وفي هذا نهاية النظام العنصري اﻹسرائيلي الذي يحتاج ٳلى جو من الحرب والعداء لكي ينمو ويزدهر.
يبقى السؤال الأخير وهو :”لماذا سربت المصادر اﻷمريكية الطلب اﻹسرائيلي ؟” وهي خطوة غير لبقة وغير دبلوماسية من جانب اﻹدارة اﻷمريكية.
الله وحده يعلم ما هي أهداف اﻹدارة اﻷمريكية من فضح حقيقة الموقف اﻹسرائيلي تجاه نظام الأسد. ربما تريد أمريكا من هذه الخطوة الضغط على ٳسرائيل وكشف نفاقها ﻹضعاف الموقف اﻹسرائيلي تجاه ٳيران إضافة إلى جعل الدولة العبرية مسؤولة عن ممارسات ربيبها الأسدي. قد يكون اﻷمريكيون راغبين في تخفيف الضغوط السعودية عليهم بخصوص الأسد و توجيه هذه الضغوط صوب ٳسرائيل.
ربما يكون اﻷمريكيون قد ملوا من صورة اﻷمريكي البشع التي تلتصق بهم وأرادوا توضيح أن “اﻷمريكي قد يكون بشعاً، لكن اﻹسرائيلي، مثل اﻹيراني ، أبشع بكثير “. اﻹسرائيليون واﻹيرانيون لديهم مصلحة في تسويق صورة اﻷمريكي البشع كل ﻷسبابه. اﻹيرانيون محتاجون لتخويف شعبهم من “الشيطان اﻷكبر” الذي لا هم له سوى الترصد لدولة الولي الفقيه. المهم أن يضحي الشعب اﻹيراني بحريته وبالغالي والثمين ويساند سياسة نجاد المهووسة خوفاً من العدو الامبريالي. أما اﻹسرائيليون فلديهم مصلحة في توجيه عداء محيطهم العربي صوب اﻷمريكي البعيد بدل أن ينصب جام غضب العرب على السياسات اﻹسرائيلية القريبة.
في هذه الأثناء يبقى الدم السوري نازفاً ويبقى أطفال سورية يبكون ولا من مجيب…
أحمد الشامي