علم البيانات الضخمة وفقه الواقع

يحتاج التمكن في فقه الواقع إلى الإكثار من القراءة ومتابعة المستجدات المعاصرة، سواء كان ذلك بفقه الواقع بمعناه العام أو بمعناه السياسي الخاص، وقد برزت في العقود الأخيرة طرق جديدة متطورة لتحصيل المعلومات عبر منهجيات الاستقراء وإجراء الإحصاءات والاستبيانات وما شابه. وقد أنتجت هذه الطرق المزيد من الدقة في العلوم الاجتماعية، والتي يرتبط بها فقه الواقع السياسي بشكل كبير. ثم تطورت أيضاً طرق تحصيل هذه المعلومات بواسطة التكنولوجيات الرقمية فيما يُعرف مؤخراً بأنه ثورة غير مسبوقة في عالم البيانات، والتي أنتجت كميات لا حصر لها من البيانات الضخمة التي من شأنها زيادة فهمنا للواقع من حولنا. فما هي البيانات الضخمة؟ وما هو علم البيانات؟ وكيف يمكن الاستفادة منه لتحسين فقه الواقع؟

تعريف علم البيانات

تعرّف موسوعة ويكيبديا (بتصرف) علم البيانات كما يلي:

“هو علم يغلب عليه تداخل الاختصاصات، ويقوم على استخدام الأساليب العلمية والمعالجات والخوارزميات والنظم لاستخراج المعرفة والأفكار من البيانات بشكليها، سواء كانت منظمة، أو غير منظمة، ويبدأ ذلك بالتنقيب في البيانات. كما يعتمد علم البيانات على تقنيات تعلم الآلة والذكاء الصناعي وبرامج معالجة البيانات الضخمة. وعلم البيانات مفهوم قائم على توحيد الإحصاء، وتحليل البيانات وتعلم الآلة والوسائل المرتبطة بهم من أجل تحسين فهم وتحليل ظاهرة فعلية باستخدام البيانات الضخمة”. وهو يقوم بتوظيف نظريات وأساليب مستمدة من حقول معرفية متعددة مثل الرياضيات والإحصاء وعلم المعلومات وعلوم الحاسب. ويتصور جيم غراي الفائز بجائزة تورينج بأن علم البيانات “نموذج رابع” للعلوم بالإضافة إلى (التجريبية والنظرية والحسابية)، وأكد أن “كل شيء عن العلوم يتغير بسبب تأثير تكنولوجيا المعلومات و “طوفان البيانات.”

البيانات الضخمة وفقه الواقع

أما بالنسبة إلى فقه الواقع، فمن المعلوم جيداً أنه كلما كثرت القراءة وكميات المعلومات التي يمكن جمعها حول الشيء أو الظاهرة المراد فهم واقعها كان ذلك، من حيث المبدأ، أدعى إلى تحصيل فهم دقيق عنها، بالإضافة طبعاً إلى ضرورة فرز المعلومات والبيانات المهمة عن غير المهمة، وجميع ذلك يحدث الآن بشكل أفضل بفضل مساعدة تكنولوجيات مراكز البيانات الضخمة التي تجمع معلومات وبيانات أكثر بملايين المرات من السابق، وتستطيع تخزينها ومعالجتها ليقوم علماء البيانات بفرز المهم منها والتحقق من مدى دقتها، ومن ثم يقومون بتشيكل نماذج تفسيرية أولية تحاول أن تعرض الصورة الكاملة التي تنتجها هذه البيانات الضخمة.

حتى نهاية القرن المنصرم وما بعده بقليل، كانت البيانات التي يتم جمعها عادة قليلة نسبياً، أو إذا كانت كثيرة فإنها تظل قابلة للسيطرة نسبياً، فمن الممكن مثلاً تصور مثال عليها في مجال علوم الحديث الشريف، فهو يحتوي على مئات آلاف الأحاديث النبوية، بالإضافة لمئات آلاف أخرى من أسماء رواة الحديث، فهو يشابه كثيراً نماذج علوم البيانات الكبيرة، لكنها لا تعد بيانات ضخمة بالمقاييس الأخيرة في العقد الثاني من القرن الحالي، حيث تتوفر الآن كميات من البيانات بوحدات تخزين تفوق المليارات، وهي يتم انتاجها يومياً من مليارات الأجهزة الهاتفية النقالة وشبكات التواصل الاجتماعي والحساسات الذكية والأقمار الصناعية وغير ذلك الكثير، بحيث أصبح من العسير الاستفادة منها بالطرق والتقنيات القديمة.

تطور أدوات تحليل البيانات

ونتيجة لذلك فقد تم في العقد الماضي تطوير العديد من أجهزة الكمبيوتر الضخمة المنتشرة على شبكة الانترنت حول العالم، وهي تستضيف أكبر وأضخم برامج إدارة واستخلاص وتحليل البيانات، كما أنها مدعومة بأقوى وأسرع العتاد الرقمي من أجل تسريع بناء نماذج رياضية ومعرفية جديدة وغير مسبوقة تتعلق بقضايا معرفية كثيرة، وذلك مثل التبنؤ بالطقس والخرائط الجوية لسنوات قادمة وليس فقط لأسابيع وأشهر، وإدارة شبكة الطرق والسير في المدن الكبرى، وإدارة شبكات التواصل الاجتماعي التي لها عشرات الملايين من الأعضاء، بالإضافة إلى الاستفادة من بيانات العملاء في الشركات العالمية الكبرى، وكل ذلك بهدف انتاج رؤى وقرارات أكثر صواباً ودقة.

البيانات الضخمة وتطور العلوم

بدأت الكثير من المؤسسات العالمية الكبرى والدول ومجتمعات التخصصات العلمية المختلفة بالاستفادة من هذه الثورة الهائلة، فهي ذات فوائد لا تقتصر فقط على عالم التقنية أو الأعمال التجارية، بل هي قابلة للتطبيق في المجالات السياسية والاجتماعية والتاريخ والقانون وغيرها، مما يعني بدهياً أنها قابلة لأن تستفيد منها العلوم الشرعية مثل ما استفادت من التقنيات التي سبقتها، فمن الجائز مثلاً تخيل أن يقوم فريقان متعاونان من علماء البيانات الضخمة وعلماء الحديث الشريف وعلم الرجال بإدخال البيانات اللازمة في مشروع كبير، ثم الطلب من هذه البرامج بإشراف متكامل من هذا الفريق أن تقوم باستخراج أفضل وأدق تخريج علمي للأحاديث الشريفة.

أما في مجالات فقه الواقع السياسي، فمن المعروف أنه الممكن إنشاء توقعات المستقبل من خلال النظر في أحداث الماضي، وكلما كان هذا النظر أكثر وأشمل كانت التوقعات أكثر دقة، ولكن من خلال علم البيانات يمكن إنشاء نماذج وخوارزميات تم تغذيتها بحجم هائل من البيانات التاريخية بحيث تصبح قادرة على إنشاء توقعات أكثر دقة في وقت أقصر، بالإضافة إلى مجالات وقضايا كثيرة أصبحت أكثر تعقيداً في السنوات الأخيرة. وفي الحقيقة، يبدو من الواضح أن علم وتنكولوجيا البيانات الضخمة جاء في الوقت الصحيح لحل مشكلة زيادة التعقيدات المتسارعة التي وقعت في العقدين الأخيرين، بحيث تركت أكثر المحللين اطلاعاً وعبقرية في حيرة من أمرهم.

فقه الواقع والعلوم الاجتماعية الحسابية

العلوم الاجتماعية الحسابية هي شكل من أشكال الاستفادة من ثورة علوم البيانات في مجال العلوم الاجتماعية، قد تطورت أيضاً من دمج مجمل تلك التقنيات والعلوم مع العلوم الاجتماعية فيما يُعرف حديثاً بالعلوم الاجتماعية الحاسبية، والتي تعرفها ويكيبيديا (بتصرف) كما يلي:

“العلوم الاجتماعية الحسابية يشير إلى التخصصات الفرعية الأكاديمية المعنية بالنهج الحسابية للعلوم الاجتماعية. وهذا يعني أن أجهزة الكمبيوتر تستخدم لنمذجة، محاكاة، وتحليل الظواهر الاجتماعية. وتشمل الحقول الاقتصاد الحسابي، وعلم الاجتماع الحسابي، والتحليل الآلي للمحتويات في وسائل الإعلام الاجتماعية والتقليدية. وهي تركز على التحقيق في العلاقات الاجتماعية والسلوكية والتفاعلات من خلال المحاكاة الاجتماعية، والنمذجة، وتحليل وسائل الإعلام”.

هنا يمكن القول بأن بداية تحقيق حلم تحويل العلوم الاجتماعية، ومن ضمنها طبعاً فقه الواقع إلى علم دقيق يمكن الاعتماد عليه، بأنها قد انطلقت إن شاء الله.

زاهر طلب

27/11/2021

 

Scroll to Top