نظرة عامة على فقه الواقع السياسي

فقه الواقع السياسي من الموضوعات الإسلامية المعاصرة التي أثارت الكثير من الجدل، وهو موضوعٌ يتشابك أيضاً مع فقه الواقع الشرعي العام، والذي يعبر عنه علماء أصول الفقه بمصطلح “تحقيق المناط”. وﻷجل حصر الموضوع وتخفيف التشتت، سيكون الحديث فقط عن فقه الواقع السياسي المعاصر، والذي ظهر في أواخر القرن العشرين، وهو يُعتبر من المصطلحات المحدثة مثله مثل الصحوة اﻹسلامية وفقه الدعوة وما شابه.

وقد ظهر هذا المصطلح للدلالة على الموضوعات والإشكاليات السياسية المعاصرة والتي لها متعلقات شرعية أو قرآنية، وهو يختلف عن التحليل السياسي المهني على شاشات القنوات الفضائية وإن كان يشترك معه في كثير من اﻷسس، كما يختلف عن الأبحاث السياسية الأكاديمية في مراكز اﻷبحاث، باﻹضافة أيضاً إلى اختلافه عن السياسية الشرعية المعروفة قديماً في الفقه الإسلامي رغم أن له علاقة وثيقة بها وينطلق من نفس أصولها الشرعية.

تعريف فقه الواقع السياسي

سبق وأن نشرنا تعريفاً بفقه الواقع السياسي وفقه الواقع العام، وليس الغرض في هذا الموضوع هو إعادة التعريف، ولكن للدخول في مزيد من التفاصيل عنه، وما هي بعض الموضوعات التي يختص بها هذا العلم أو الفرع العملي (إن جاز التعبير) مع إيراد اﻷمثلة، ورغم عدم وجود تعريف ثابت متفق عليه لفقه الواقع السياسي إلا أنه غالباً ما يُطلق على الاهتمام بمعرفة أحداث العالم اﻹسلامي وأحياناً الأحداث العالمية بشكل عام، خاصة منها السياسي، وخاصة حول مخططات أعداء الأمة اﻹسلامية والبشرية عموماً، وما يتبع ذلك من تحليلات سياسية وتاريخية.

أهم موضوعات فقه الواقع السياسي

يتطرق فقه الواقع السياسي للكثير من الموضوعات السياسية المعاصرة، والتي لم يكن يتم التطرق لها بشكل متخصص في العصور اﻹسلامية، بل كانت تندرج ضمن السياسة الشرعية أحياناً، والفقه السياسي والتاريخي أحياناً أخرى، وكذلك العمل السياسي البحت عند قادة وحكام المسلمين، كما كان كثير منها موضوعاً مناسباً لعمل المؤرخين وكتاب السير. ولكن في العصر الحديث ومع تطور وظهور مهن الصحافة والتحليل السياسي وحتى خبراء العلوم السياسية المتقدمة، فقد ظهرت الحاجة بشدة لظهور علم شرعي وواقعي في آن واحد من شأنه أن يكون مستقلاً عن الفقه الشرعي التقليدي، وأيضاً في ذات الوقت يتميز عن التحليل السياسي العادي بأنه ينطلق من منطلقات شرعية كي يستحق أن يكون تحليلاً سياسياً شرعياً، باﻹضافة إلى اﻷخذ بما يصح من أسس علمية في علوم الصحافة والسياسة المعاصرة بما لا يخالف الشرع الحنيف، وذلك ليكون مبنياً على فهم علمي للواقع.

وقد ظهرت في القرن العشرين العديد من المدارس الفكرية اﻹسلامية التي اشتغلت بفقه الواقع، سواءً قامت باستعمال هذا المصطلح أم بدون استعماله، وذلك طبعاً لشدة الحاجة الملحة له مع كثرة اﻷحداث السياسية الكبرى وغياب الرؤية الشرعية لدى المحلل السياسي العادي، وكذلك بسبب صعوبة توفر الرؤية الواقعية لدى بعض أصحاب الفقه الشرعي في كثير من اﻷحيان عندما الحديث في اﻷوضاع السياسية. ومن المحتمل أيضاً أن يكون سقوط الدولة العثمانية من الأسباب التي جعلت المسلمين بحاجة ماسة لهذا العلم، سواءً للتعويض عن غياب أصحاب رؤية سياسية شرعية متمثلة مؤسسة الخلافة، أو حتى للرد على الطروحات واﻹشكاليات التي نتجت عن ظهور الحركات الإسلامية المنادية بإعادة الخلافة، وغير ذلك من أسباب كثيرة.

من الصعب أن حصر جميع المدارس التي اشتغلت بفقه الواقع السياسي، لكن من الممكن محاولة التعريج على بعض أشهرها، وكثيراً ما تكون متباينةً في الطروحات، سواءً من ناحية التنوع في جوانب الطرح، أو حتى بالتناقض في إصدار الأحكام حول كثير من القضايا، ومن أشهر هذه المدارس ما يلي:

  • مدرسة جمال الدين الأفغاني، وقد تكون هي أول مدرسة في فقه الواقع خاصة بعد سقوط الدولة العثمانية.
  • مدرسة اﻹخوان المسلمين في فقه الواقع وفقه الدعوة اﻹسلامية لإصلاح المجتمع وإعادة الخلافة اﻹسلامية، وتعتبر من أوائل المدارس وأشهرها.
  • مدرسة مالك بن نبي في الجزائر وتفرع عنها مدرسة جودت سعيد في سوريا، والتي ترى أن الإصلاح يكون بإصلاح ما في اﻷنفس أولاً وليس إقامة الخلافة.
  • مدرسة السلفيين المتجسدة بدولة السعودية في الجزيرة العربية التي تحكم بالشريعة اﻹسلامية.
  • المدرسة السلفية في الشام واﻷردن متجسدة بالشيخ اﻷلباني ما تفرع عنه، وهي ليست مدرسة لها الكثير من الطروحات بمعنى الكلمة.
  • مدرسة الأزهر التقليدية حيث كان لبعض من مشايخهم القدرة على التحليل في بعض اﻷحداث المعاصرة.
  • مدرسة اﻷستاذ أبو اﻷمين (محمود عبد الرؤوف القاسم) وهي مدرسة فكرية سياسية غير مشهورة، إلا أن لها الكثير من الأفكار والطروحات والمؤلفات العميقة في طرحها.
  • مدرسة مشايخ الشام الصوفيين مثل البوطي وغيره ولها رؤى سياسية تركز على الخطر الاستشراقي الغربي.
  • مدرسة الجماعة اﻹسلامية في الهند وهي تشابه رؤية اﻹخوان مع اختلافات أخرى.
  • مدرسة الحركة اﻹسلامية في تركيا و تختلف بعض الشيء عن رؤية الإخوان، خاصة لدى حزب العدالة والتنمية.

هذا ولا يمكن حصر جميع هذه المدارس بسهولة، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أيضاً أن كثيراً من الجماعات المنحرفة والمتطرفة من الخوارج وتنظيم القاعدة وغلاة الشيعة من اﻷحزاب والمليشيات الإيرانية هم أيضاً يزعمون أنهم أصحاب مدرسة في فقه الواقع السياسي، ومنهم أيضاً حزب التحرير الداعي ﻹقامة الخلافة كحل وحيد لجميع مشاكل اﻷمة اﻹسلامية، وقد لحق عموم تيار اﻹخوان في فترات كثيرة بالخوارج بدءًا من التيار القطبي وكذلك حتى بسبب دعمهم للفكر التحريري والقاعدي عموما. والحقيقة أنه يصعب تخيل وجود أي جماعة إسلامية من أي مذهبٍ كانت في القرن العشرين إلا وكان لها توجه بشكل أو بآخر نحو الفكر والتحليل السياسي المبني على أسس شرعية بشكل أو بآخر، مما يجعل ضبط موضوع فقه الواقع أمراً في غاية اﻷهمية، وكذلك في غاية الصعوبة.

أمثلة على أهم موضوعات فقه الواقع

هذه بعض اﻷمثلة على ما تم نشره والتأصيل له فيما يندرج تحت موضوع فقه الواقع السياسي، وجدير بالذكر أن هذه القائمة ليست لحصر كافة الموضوعات، وإنما لذكر بعض أشهر اﻷمثلة. علماً أيضاً أن فقه الواقع قد يكون شبيهاً بعلم النفس وعلم الاجتماعي لناحية تعدد الطروحات التي تدعي أن هذا هو الموضوع الوحيد لفقه الواقع أو هذه الرؤية هي الوحيدة لفقه الواقع، ومن الواضح تماماً أن هناك أكثر من رؤية تصلح في نفس الوقت أن تكون من موضوعات فقه الواقع، كما أن بعض الرؤى المتناقضة قد يكون الحق فيها واحداً وخلافها باطل، وبعضها يصلح بحسب حال كل أهل بلد أو زمن معين.

ومن أبرز الموضوعات التي تطرقت لها مختلف مدارس فقه الواقع ما يلي:

  • الدعوة لرفض ظلم الدولة العثمانية في أواخر عهدها، وتجسدت في طروحات الشيخ جمال الدين الأفغاني والشريف حسين مع اختلاف بيّن بين الرؤيتين، وينصبّ تركيزها على خطر سياسة التتريك العثمانية من دون إغفال للخطر الاستعماري الغربي والحركة الصهيونية.
  • الدعوة ﻹعادة الخلافة اﻹسلامية بشكل معتدل مع الدعوة والتربية الجهادية، وتجسدت في حركة الإخوان المسلمين في مصر بقيادة حسن البنا، وكان لديها رفض للاستعمار الغربي والحركة الصهيونية، باﻹضافة حتى لمقاومة الموجة الشيوعية في بعض الأحيان، ولكن التركيز كان على الخطر الغربي أكثر، مما أدى لتحالفها مع الحركات الاشتراكية أحياناً.
  • حركة إصلاح النفس والمجتمع بقيادة مالك بن نبي في الجزائر، وتميزت كذلك بالتأكيد على تفاصيل غير مسبوقة في المخططات الغربية الاستعمارية، ولكن مع الغفلة نسبياً عن الخطر الشيوعي.
  • مدرسة حزب التحرير والتي تركز على التحذير بشكل مبالغ فيه من الخطر الاستعماري، مع إهمال واضح للخطر الشيوعي.
  • المدرسة السلفية في السعودية، وكانت واعية بالخطر الشيوعي، والغربي والصهيوني عموماً، وكذلك بالخطر الخميني اﻹيراني، ولكن ليس لديها تفاصيل ورؤى واضحة في كل القضايا.
  • المدرسة السلفية في اﻷردن، وكان من ضمن فروعها مدرسة اﻹمام الألباني التي ركزت على التربية والتصفية كأساس للنهضة مع الابتعاد عن الخوض في القضايا السياسية والتركيز على وجوب طاعة الحاكم وتحريم الخروج عليه.
  • مدرسة اﻷستاذ أبو اﻷمين (محمود عبد الرؤوف القاسم)، وهي مدرسة سلفية أخذت من العديد من المدارس السابقة، ولها رؤيتها الخاصة، وقد تأثرت بالمدرسة اﻷلبانية في قضية الخروج على الحاكم، وكذلك أخذت بمبدأ إصلاح ما في اﻷنفس من مدرسة مالك بن نبي، كما تتميز بتقديم تفاصيل وافية في التحذير من الخطر الشيوعي بمختلف أنواعه مع ربطه بالخطر الصهيوني.

زاهر طلب

كاتب وباحث في فقه الواقع السياسي

5/10/2021

Scroll to Top