وقفات متفرقة على غاية من الأهمية
ذكر الشيخ محيي الدين ابن عربي في الباب الرابع والخمسين من الفتوحات المكية ما نصه: اعلم أن أهل الله لم يضعوا الإشارات التي اصطلحوا عليها فيما بينهم لأنفسهم، فإنهم يعلمون الحق الصريح في ذلك، وإنما وضعوها منعاً للدخيل بينهم، حتى لا يعرف ما هم فيه، شفقة عليه أن يسمع شيئاً لم يصل إليه، فينكره على أهل الله، فيعاقب على حرمانه، فلا يناله بعد ذلك أبداً، …
ولم يزل علماء الظاهر في كل عصر يتوقفون في فهم كلام القوم، وناهيك بالإمام أحمد بن سريج، حضر يوماً مجلس الجنيد، فقيل له: ما فهمت من كلامه؟ فقال: لا أدري ما يقول، ولكن أجد لكلامه صولة…ثم إن القوم لا يتكلمون بالإشارة إلا عند حضور من ليس منهم، أو في تأْليفهم لا غير. ثم قال: ولا يخفى أن أصل الإنكار من الأعداء المبطلين إنما ينشأ من الحسد، ولو أن أولئك المنكرين تركوا الحسد وسلكوا طريق أهل الله لم يظهر منهم إنكار ولا حسد، وازدادوا علماً إلى علمهم. ولكن هكذا كان الأمر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…
وأشد الناس عداوة لأصحاب علوم الوهب الإلهي في كل زمان أهل الجدال بلا أدب، فهم لهم من أشد المنكرين؛ ولما علم العارفون ذلك عدلوا إلى الإشارات، كما عدلت مريم عليها السلام، من أجل أهل الإفك والإلحاد إلى الإشارة، فلكل آية أو حديث عندهم وجهان: وجه يرونه في نفوسهم، ووجه يرونه فيما خرج عنهم، قال تعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ)) [فصلت:53] فيسمون ما يرونه في نفوسهم إشارة ليأنس المنكرون عليهم، ولا يقولوا: إن ذلك تفسير لتلك الآية أو الحديث، وقاية لشرهم ورميهم لهم بالكفر، جهلاً من الرامين معرفة مواقع خطاب الحق تعالى، واقتدوا في ذلك بسنن من قبلهم، وإن الله تعالى كان قادراً أن ينص ما تأوله أهل الله وغيرهم في كتابه، كالآيات المتشابهات، والحروف أوائل السور، ومع ذلك فما فعل، بل أدرج في تلك الكلمات الإلهية والحروف أوائل السور، علوماً اختصاصية لا يعلمها إلا عباده الخُلَّص…ومع هذا التفاضل المشهور فيما بينهم ينكرون على أهل الله تعالى،.. فإن القوم لما عملوا بما علموا، أعطاهم الله تعالى علماً من لدنه، بإعلام رباني أنزله في قلوبهم مطابقاً لما جاءت به الشريعة لا يخرج عنها ذرة!!
* وقفة قصيرة: بما أننا الآن نعيش لحظات في التفسير الإشاري، فنريد أن نفهم النصوص فهماً (إشاريًّا). وعليه يكون المعنى (الإشاري) لعبارة (مطابقاً لما جاءت به الشريعة) هو: مطابق (أي: يشكل طبقة مقابلة) لما جاءت به الشريعة، وواضح أن هذا يعني أنهما منفصلان عن بعضهما. أما قوله: (لا يخرج عنها ذرة) فتحتمل معنيين (إشاريين):
المعنى الأول: لا يخرج عنها (أي: عن الشريعة) ذرة، أي: واحدة، لتلتحق بالعلم اللدنِي، فلا يوجد في العلم اللدني ذرة واحدة خرجت إليه من الشريعة، فهما مختلفان جملة وتفصيلاً.
المعنى الثاني: (بالكشف) نشاهد أن كلمة (ذرة) تعني في لغة (الحقيقة) المسافة بين الجنة وجهنم، فيكون المعنى: لا يخرج عنها ذرة؛ أي: لا يخرج عنها المسافة بين الجنة وجهنم، فالمسافة بين الجنة وجهنم موجودة بين الشريعة وبين حقيقتهم. ونتابع.
…وتعوّدوا أخذ العلم من الكتب، ومن أفواه الرجال، حجبهم ذلك عن أن يعلموا أن لله عباداً تولى تعليمهم في سرائرهم، إذ هو المعلم الحقيقي للوجود كله، وعلمه هو العلم الصحيح الذي لا يشك مؤمن ولا غير مؤمن في كماله…فعلم أن من كان معلمه الله تعالى، كان أحق بالاتباع ممن كان معلمه فكره، ولكن أين الإنصاف؟
فصان الله نفوسهم بتسميتهم الحقائق إشارات، لكون المنكرين لا يردون الإشارات، وأين تكذيب هؤلاء المنكرين لأهل الله في دعواهم العلم من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لو تكلمت لكم في تفسير سورة الفاتحة لحمّلت لكم منها سبعين وقراً)، فهل ذلك إلا من العلم اللدني الذي آتاه الله تعالى له.
* وقفة قصيرة: الكذب على علي بن أبي طالب أهون من الكذب على الله أو على رسوله. ونتابع.
.. وقد كان الشيخ أبو يزيد البسطامي يقول لعلماء زمانه: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علومنا عن الحي الذي لا يموت، وكان الشيخ أبو مدين إذا سمع أحداً من أصحابه يقول في حكاية: (أخبرني بها فلان عن فلان) يقول: لا تطعمونا القديد، يريد بذلك رفع همة أصحابه، يعني: لا تحدثوا إلا بفتوحكم الجديد الذي فتح الله تعالى به على قلوبكم في كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الواهب للعلم الإلهي حي لا يموت، وليس له محل في كل عصر إلا قلوب الرجال.
* وقفة قصيرة أيضاً: يقول: (الذي فتح الله تعالى به.. في كلام الله تعالى أو كلام رسوله)!! فهل قول أبي يزيد، وقول أبي مدين يوافق كلام الله أو كلام رسوله من قريب أو من بعيد؟! أو من أبعد من بعيد؟! إلا عن طريق التأويل، فسيفه صقيل، ومفعوله سحري، بل يعجز السحر والسحرة والفجرة عن تحقيق ما يحققه التأْويل!.. نتابع.
.. وسئل الأستاذ علي بن وفا رضي الله عنه من بعض العارفين، على لسان بعض المعترضين: لمَ دوّن هؤلاء العارفون معارفهم وأسرارهم التي تضر بالقاصرين من الفقهاء وغيرهم؟ أما كان عندهم من الحكمة وحسن الظن والنظر والرحمة بالخلق ما يمنعهم عن تدوينها؟ فإن كان عندهم ذلك فمخالفتهم له نقص! وإن لم يكن عندهم حكمة ولا حسن ظن فكفاهم ذلك نقصاً؟! فأجاب بقوله: يقال لهذا السائل: أليس الذي أطلع شمس الظهيرة، ونشر ناصع شعاعها مع إضراره بأبصار الخفافيش ونحوها من أصحاب الأمزجة الضعيفة، عليم حكيم؟ فلا يسعه إلا أن يقول: نعم هو تعالى عليم حكيم، فإن قال: صحيح ذلك، ولكن عارض ذلك مصالح أخر تربو على هذه المفاسد، قلت: وكذلك الجواب عن مسألتك، فكما أن الحق تعالى لم يترك إظهار أنوار شمس الظهيرة مراعاة لأبصار من ضعف بصره! فكذلك العارفون لا ينبغي لهم أن يراعوا أفهام هؤلاء المحجوبين عن طريقهم، بل الزاهدين فيها، بل المنكرين عليها.. وحسبك جواباً أن من دوّن المعارف والأسرار، لم يدونها للجمهور، بل لو رأى من يطالع فيها ممن ليس هو بأهلها لنهاه عنها.
* ملحوظة: هذا سبب من أسباب تدوين هذياناتهم التي يسمونها (علماً) ظلماً للعلم، ويسمونها (حقيقة) ظلماً للحقيقة! ونتابع:
.. وكان بعض العارفين يقول: نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقتنا؛ وكذلك لا يجوز أن ينقل كلامنا إلا لمن يؤمن به، فمن نقله إلى من لا يؤمن به، دخل هو والمنقول إليه جهنم الإنكار، وقد صرح بذلك أهل الله تعالى على رؤوس الأشهاد، وقالوا: من باح بالسر استحق القتل، ومع ذلك فلم يسمع أهل الغفلة والحجاب، بل تعدوا حدود القوم، وأظهروا كلامهم لغير أهله…
* وقفة قصيرة: هذا الكلام كله مغالطات، سيأْتي تفصيلها إن شاء الله تعالى بين ثنايا النصوص.. نتابع.
.. فكما أوجب المجتهدون وحرّموا وكرهوا واستحبوا أموراً لم تصرح بها الشريعة في دولة الظاهر؛ فكذلك العارفون أوجبوا أموراً وحرموا وكرهوا واستحبوا أموراً في دولة الأعمال الباطنة؛ فالاجتهاد واقع في الدولتين…
* وقفة يجب أن تكون- هنا- طويلة جدًّا، ولكن لا مناص من تقصيرها: فالمجتهدون استنبطوا أحكاماً من النصوص؛ وهي موافقة لها ولكليات الشريعة الإسلامية، بينما هؤلاء (العارفون) أوجدوا- عن طريق الكشف- عقائد لا تمت إلى الإسلام بصلة، بل جاء الإسلام وكل الأنبياء لمكافحة هذه العقائد.
أكرر القول: إن هؤلاء (العارفين) جاءوا بعقائد غريبة، وبنوا عليها أحكاماً غريبة!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نتابع.