لماذا نحن ضائعون؟ ولماذا نحن حائرون؟ لماذا أمتنا من هزيمة إلى أخرى، ومن كارثة وفجيعة إلى أختها؟
لماذا جميعنا نشعر أننا لا نفهم جيدا ما يجري من حولنا وما يُخطط ضدنا وتخفيه لنا قوى الشر من مؤامرات لتدميرنا؟ لماذا حتى في عصر القنوات الفضائية وعصر المعلوماتية والإنترنت ازدادت حيرتنا وازدادت متاهاتنا؟ لماذا كل محلل سياسي يقول شيئا يختلف كثيرا عن الآخر؟ لماذا كل فضائية إخبارية تحليلية تعطينا رأياً مغايراً عن غيرها؟.
لماذا هذه الحالة؟ وما عسانا أن نسميها أونطلق عليها؟ إنها حالة فقدان البوصلة وفقدان المرجعية والخريطة. إن أي علم وأي مهنة أو حرفة لها أساسيات وأصول، ومن يتعلمها فإنه لا يضيع ولا يضل ويتوه في ظلمات العماية، فالحقيقة المرة أن اليهود والمخطط اليهودي قد قرر أن يدخلنا في أعماق متاهة مظلمة، ومن أحدى وسائلهم أن يكثر بعض عملائهم من ذكر الآراء والتحليلات المتناقضة في وسائل الإعلام ليجعلوا الناس وحتى المثقفين والإعلاميين الكبار ضحية لتضليلاتهم ويتعطل فهم الناس بعضهم لبعض، ويصبح أفضل رأي في السياسة هو أن لا يكون للناس رأي في السياسة.
لكن والحمد لله فإن رحمة الله الواسعة وعدالته وحكمته تأبى أن يترك الناس في حيرتهم، ولذا فإنه توجد قواعد وأصول لمعرفة وفهم الواقع الصحيح للمتخصصين، كما توجد مهارات لاكتساب الوعي السياسي الصحيح للناس بشكل عام، قال الله عز وجل مفصلا في هذا الموضوع: “وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا” ]النساء 83[، وهذا الحال ينطبق بلا شك على جميع العصور، لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه، ولذا يوجد دائما من العلماء من هم قادرون بإذن الله على اتباع الرسول (صلى الله عليه وسلم)، كما يوجد دائما من هم أهل اختصاص في فهم واستنباط المسائل السياسية وفهمها في واقعها، والحكم عليها في ضوء الشرع الحكيم.
إذن فكيف يمكننا تكوين ملكة التحليل السياسي أو تنمية مهارات الوعي السياسي؟ الجواب بسيط جدا، فلنأخذ مثلا جانب العناية بالأطفال حديثي الولادة، فنلاحظ أن الخبرات والتجارب تتوارثها النساء عن أمهاتهن وجداتهن، ويتم حفظ هذا الموروث شفويا فهو قصير ولا يحتاج للكتابة، مثال آخر: لقد تمكن المسلمون وبرعوا في علم الفقه الشرعي والقانون على مستوى العالم، لأنهم قاموا بتدوين أصول وقواعد استنباط الأحكام، وتوارثوها وجمعوها في متون مختصرة، وآخر مثال: هو لماذا يتفوق اليهود على كافة الشعوب في مجال الجاسوسية والتآمر والتخطيط السري؟ الجواب أنهم يدونون كافة تجاربهم ويستخلصون منها العبر والدروس، ويستنبطون منها القواعد والأحكام، ويجمعوها في متون خاصة.
فإذا نظرنا إلى حالنا لوجدنا أننا قد برعنا في كثير من العلوم لكننا لم يسبق لعلماء أمتنا من قبل أن قاموا بمشروع موحد لاستخلاص كافة الدروس العبر من التجارب التاريخية، وجمعها معا في مشروع واحد ووضعها في متون وتدريسها في المعاهد، ولذا نجد كل تجربة تاريخية مبثوثة في كتاب ما، وأخرى في كتاب آخر ولا يوجد كتاب أو متن واحد يجمعها جميعها.
خاصة وأن معظم ما تمر به أمتنا الآن من كوارث ومصائب له سوابق تاريخية، ونحن الآن نقع في نفس الأخطاء السابقة التي وقع بها أسلافنا ونُلدغ من الجحر الواحد عدة مرات، ورغم أن كل حادثة تاريخية قد تم تسجيلها واستخلاص العبرة منها، إلا أنه لا يوجد ما يجمع حبات اللؤلؤ المتناثر في عقد ثمين ذو قيمة أكبر من كل تلك الحبات المتناثرة.
ولهذا السبب سوف نقوم إن شاء الله في مجلتكم هذه بالتركيز على قواعد ومهارات الوعي السياسي مع ضرب الأمثلة التاريخية، وكل هذا يجب أن يكون مقرونا بأحكام الشرع الخاصة بالفقه السياسي أو السياسة الشرعية وأهمها فقه الموازنات وفقه النوازل، ونرجو أن نكون عند حسن ظنكم وأن تتحفونا بآرائكم الكريمة وتعليقاتكم المفيدة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.