يحق لنا أن نتساءل من أي كوكب سنأتي بالديمقراطيين والقوى الديمقراطية لقطرنا السوري ، إذا كنا لا نعيش اوضاعاً ديمقراطية ، وإنما أوضاعاً استبدادية شمولية ولعقود عدة !
من الضروري الإشارة بداية إلى أن نشأة الديمقراطية في الغرب ، وولادتها التاريخية منذ القرن السادس عشر ، كانت حصيلة للأزمات المتعددة والمتكررة مع أنظمة الاستبداد السياسي ، والتي باتت عاجزة عن الاستمرار في الحكم لفترات أطول ، والذي كان النظام الديمقراطي هو بديلها الحتمي ، مما يعني أن ولادتها جاءت للوجود بقوة الفعل لا بقوة القول (الأُدلجة) ، وذلك بعد عجز الأطراف المتصارعة عن القيام بتهميش أو إلغاء كل منهما للآخر ، واضطرارها للدخول في توافق وطني (ميثاق) ، وسلوك سُبل التوازنات والمساومات بين القوى السياسية المختلفة ، نتيجة ضغط الواقع وضروراته ، وبالتالي لم تكن الديمقراطية في هذه الحالة إلا وليدة الضرورات الضاغطة وليست وليدة البرامج المحددة .
وبهذا كان التوافق الوطني بوابة الخروج من حالة الانسداد السياسي الداخلي ، وذلك بعد وصول كافة الأطراف المتنابذة إلى طريق مسدود ، ولم يكن هذا التوافق ناجماً عن التنظير الأيديولوجي بقدر ما كان ناجماً عن الواقع ومعطياته الموضوعية ، وعدم إفناء أي قوة سياسية وطنية للقوة الأخرى والاحترام المتبادل فيما بينها .
وفيما يتعلق بالأحزاب الشيوعية في دول أوروبا الشرقية – سابقاً – فقد جاء تطورها الأيديولوجي تجاه موضوعة الديمقراطية عقب التحول الديمقراطي لا قبله ، والتي جاء سقوط أغلب أنظمتها الاستبدادية عن طريق التحلل الداخلي ، أكثر مما يرجع إلى نجاح حركات المعارضة السياسية الشعبية في إسقاطها .
الديمقراطية حالة توافقية وليست بضاعة أيديولوجية :
إن الحالة الديمقراطية تتأتى من التوافق بين الأطراف السياسية ، والقائمة على قبول الآخر الوطني ، داخل إطار من الخيارات المقبولة من كافة القوى الوطنية ، والتي تعني أنها ليست منتجاً مستخلصاً أو بضاعة أيديولوجية جاهزة ، بل هي حالة توافقية بين القوى السياسية القائمة على أرض الواقع .
والحالة الديمقراطية تتعرض بشكل عام إلى (عدم اليقين) حيث يتعذر معرفة منتوجاتها بشكل مسبق ، وإلا فقدت معناها التنافسي ، وهذا يعني أننا لن نعرف اليقين إلا في مدخلات الديمقراطية ونتكهن في مخرجاتها إلى حد ما ، ومثال ذلك نتائج الانتخابات الدورية .
وعادة ما تستند الأنظمة الديمقراطية في توازن القوى السياسية إلى سند أخلاقي ، والتراضي عبر المفاوضات والتوافقات والأخذ والعطاء ، (والتي لا يمكن قبولها تحت الضغط والإكراه) باعتباره السبب الأولي للاستقرار ، أما السبب الثاني فهو ابتكار آليات ومؤسسات جديد: تمثيل نيابي – قضاء مستقل – أحزاب – منظمات المجتمع المدني ، وهذا مما يعزز الديمقراطية ويرسخها ، عبر إدامة فتح قنوات الحوار والتواصل المستمرين .
وبناء على ذلك يمكن تعريف الديمقراطية:
بأنها نظام حكم مستقر يقوم على توازنات وتوافقات ومساومات بين القوى الرئيسية في الساحة السياسية ، والقابلة للدفاع عنها بمبررات أخلاقية ، والحائزة على رضى كافة الشركاء الوطنيين.
وإذا كان استقرار النظام الديمقراطي قوامه التراضي بين القوى السياسية على الحدود التي يمكن للنظام السياسي أن يتقلب في إطارها ، والتي لا يمكن تجاوزها ، فهذا ما يوجب التوصل إلى (التعهدات المتبادلة) أو (التطمينات المتبادلة) بين القوى السياسية المتنافسة لضمان احترام تعهداتها من جهة ، واحترام قواعد اللعبة الديمقراطية من جهة أخرى .
ومن الضروري الاقتناع بأن عالم السياسة يتعلق أساساً بالمعطيات الموضوعية ، والتوازنات السياسية القائمة على أرض الواقع ، أكثر مما يتعلق بمشاعر الخوف والحب والكره للآخر الوطني ، والتي يمكن تقليص الكثير منها عبر توسيع دائرة الحوار الفكري والسياسي ، وهذا مما يطمئن جميع التيارات ويحد من غلوائها الأيديولوجي .
ونتأدى من ذلك إلى أن أي تحول ديمقراطي لا يمكن إنجازه إلا عقب إنجاز التوافق الوطني والقضاء على حالة الاستقطاب الأيديولوجي الحادة بين الفصائل الوطنية المختلفة ، والشروع في بناء كتلة وطنية على قاعدة الديمقراطية تجمع كافة القوى الوطنية الديمقراطية.
في النظام الديمقراطي : لا نصر نهائي ولا هزيمة نهائية :
إن أطراف المباراة السياسية في النظام الديمقراطي ، يستهدفون زيادة سلطتهم وقوتهم المادية إلى أقصى مدى ، وسلوك سبيل النهج السلمي لتحقيق أهدافهم .
من الجدير بالذكر أن الديمقراطية تتيح للخاسرين أن يتطلعوا دوماً إلى الأمام ، ويأملوا بمستقبل أفضل قد يحصلون عليه من خلال الانتخابات الديمقراطية الدورية ، وكسب الرأي العام لتعزيز مواقعهم , وقد تكون إمكانية الفوز بكل شيء مستقبلاً ترجح الكفة على إمكانية خسارة كل شيء في الحاضر (المباراة غير الصفرية بين القوى السياسية) ، والابتعاد عن المقولة الأيديولوجية الشمولية وهي الحصول على كل شيء او لا شيء ( المباراة الصفرية بين القوى السياسية ) والنابعة بالضرورة من الأحادية الفكرية والثقافية والسياسية للنظام الاستبدادي الشمولي ، والتي لا تعترف بالآخر الوطني بل تستأصله تماماً .
إن المحنة الديمقراطية للأحزاب القومية والإسلامية واليسارية في بلداننا تتشابه مع الظروف التي واجهتها الأحزاب الشيوعية في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية ، والتي كانت تناصر أهدافاً عقائدية مغايرة جوهرياً للحالة الديمقراطية القائمة حينئذ، ولكنها مارست النقد الفكري والسياسي الذاتي على منطلقاتها وبرامجها ، ودخلت مرحلة التطوير الأيديولوجي باتجاه الديمقراطية ، واتبعت الوسائل السلمية لتحقيق أهدافها من خلال صناديق الاقتراع ، ونبذ مفهوم دكتاتورية البروليتاريا ، ودخول الساحة الديمقراطية حسب القواعد المتفق عليها بين القوى السياسية الوطنية .
فهلا عملت تياراتنا الفكرية وأحزابنا وقوانا السياسية القومية والإسلامية واليسارية على ولوج درب المراجعات الفكرية والسياسية والتطوير الأيديولوجي باتجاه موضوعة الديمقراطية ، ونبذ الشمولية والأصولية والعنفية والإقصائية الفكرية والثقافية السياسية في التعامل مع القضايا الوطنية الداخلية ، واعتبار ذلك ضرورة قصوى وبوابة التحول الديمقراطي الوشيك لبلدنا .
فماذا نحن فاعلون ؟
خطة تعلم التحولات الديمقراطية:
يرى كل من (روستو – بروزرسكي) أن الديمقراطية هي أفضل الحلول الممكنة لتصادم المصالح ، وإدارة المصالح بشكل سلمي ، وأن التطبيقات الديمقراطية قد تأتي من مساومات يجري التوصل إليها مع أحزاب قليلة الخبرة السياسية ، أو أحزاب ليست ذات التزام فلسفي بالديمقراطية على مستوى المبادئ أو البرامج .
وقد قدما معاً خطة لتعلم التحولات الديمقراطية والحفاظ عليها من خلال استقراء بعض التجارب الديمقراطية لدول امريكا الجنوبية واللاتينية ، وهم الذين سبقونا في التحولات الديمقراطية ، والتي تم تقسيمها إلى ثلاث مراحل متعاقبة :
المرحلة الأولى :
والتي تتضمن نضال سياسي طويل وغير حاسم ، وتتجه فيه المواقف نحو الاستقطاب الحاد ، مع مناصرة الديمقراطية تكتيكياً للوصول إلى غايات أخرى .
المرحلة الثانية :
وهي مرحلة اتخاذ القرار ، حيث يدخل الخصوم السياسيون في مأزق لا يخرج أحد منهم فائزاً ، وبدء التفاوض فيما بينهم للوصول إلى حلول وسطية ، وهي المرحلة التي يتم فيها وضع القواعد الديمقراطية (الالتزام المتبادل ) بين القوى الوطنية المتنافسة .
المرحلة الثالثة :
إن تكرار لعبة المباراة الديمقراطية تُحدث تعوداً ، كما يُفترض أن يحدث بمرور الزمن مماهاة إيجابية مع القواعد الديمقراطية لدى كل من القوى السياسية والمواطنين وتعودهم عليها .
وعندما يتم إنزال هذه الخطة على أرض الواقع ، يتبين بوضوح عدم ضرورة مرور كافة أقطار التحول الديمقراطي بالمراحل جميعاً وبشكل تعاقبي ، فقد يمر قطر معين بالمرحلتين الثانية والثالثة دون المرور بالمرحلة الأولى ومثال ذلك (تركيا) في بداية انتقالها الديمقراطي بالخمسينيات ،في حين أن (الهند) مرت بالمراحل الثلاث ، حيث كان عدم التوصل إلى حلول شبه ديمقراطية بين القوى السياسية الهندية عقب تحقيق الاستقلال كفيلاً بأخذ البلد إلى حافة الهاوية.
والسؤال : في أي مرحلة تعيش القوى السياسية المعارضة السورية ؟
والخلاصة / إن بناء الديمقراطية ينفذه غير الديمقراطيين ، والآملين بكسب كل شيء ، ولكنهم يتعلمون من خلال التجربة الأليمة أن إمكانية كسب أي شيء هي أفضل من عدم كسب أي شيء، بل وخسارة كل شيء .
استنتاجات ختامية:
-
إن الضرورات الضاغطة التي تعيشها سوريا اليوم ، تفرض على القوى السياسية المعارضة التخلي عن ظاهرة الاستقطاب الأيديولوجي ،وإنجاز التوافق الوطني ، حيث لا سبيل للانتقال الديمقراطي ، دون بناء كتلة وطنية على قاعدة الديمقراطية .
-
إن الديمقراطية حالة توافقية بامتياز ، وتقوم على التوازنات والمساومات والتوافقات بين القوى السياسية المتنافسة .
-
إن العمل السياسي عموماً يتعلق بالمعطيات الموضوعية ، وتوازنات القوى السياسية الموجودة على ارض الواقع ، أكثر مما يتعلق بالمشاعر المتبادلة بين الفصائل السياسية ، (الحب – الكره) .
-
في النظام السياسي الديمقراطي لا وجود البتة للمباراة الصفرية بين القوى السياسية ( لا نصر نهائي ، ولا هزيمة نهائية)
-
ضرورة قيام التيارات الفكرية والقوى السياسية الأيديولوجية المعارضة ، باستخدام مطارق النقد الفكري والسياسي تجاه منطلقاتها الفكرية وبرامجها السياسية ، ودخول مرحلة التطوير الأيديولوجي وتحديداً موضوعة الديمقراطية وتحقيق المصالحة بين التيار الأيديولوجي والديمقراطية بشكل عام .
-
في اعتقادنا أن المعارضة السياسية السورية ، قد تجاوزت المرحلة الأولى من خطة تعلم التحولات الديمقراطية (روستو – بروزرسكي ) ومن الضروري ولوجها المرحلة الثانية من الخطة ، والمتعلقة بضرورة إرساء القواعد الديمقراطية في حدها الأدنى منعاً للاختلاف حول التفاصيل ، والتفاهم حول ( الالتزامات المتبادلة) بين كافة القوى السياسية الوطنية ودخولها حيز التنفيذ .
وأخيراً نقول / إذا كانت جميع الأنظمة السياسية تتصف بالسوء ، فإن النظام السياسي الديمقراطي هو الأقل سوءاً .