تركيا: تجربة ناجحة «نعم».. إسلامية نموذجية «لا»

لهذا المقال دواعيه الظرفية المتحركة، لكنها ذات ثبات واطراد موضوعي في «الزمن». ففي هذه الحقبة – ولا سيما بعد الانتفاضات الشعبية في غير بلد عربي – كثر الحديث عن «النموذج التركي»، وعن نجاحه وإمكان أو «وجوب» محاكاته. وقد تخلل هذا الطرح أسئلة عديدة منها سؤال وجهته صحيفة سعودية إلى كاتب هذه السطور، خلاصته: لم نجحت التجربة التركية في الجمع بين أساليب الحداثة وقيم الأصالة، ولم تنجح محاولات أخرى في دول عربية؟ ونجمل القول في هذا الطرح، أو هذه القضية فنقول: إن تقويم التجارب السياسية للدول – الناجحة أو الفاشلة – يتطلب دراسات منهجية موسعة تستقرئ الأسباب والعوامل كافة، وتستصحب المقاييس العلمية في التحليل والتفسير، ثم تستخلص النتائج بموضوعية تامة، أي بلا هوى معاد يميل إلى التقليل من الشأن، وبلا عاطفة صديقة تغلو في الإطراء.. ولما كانت هذه الدراسة غير ممكنة بالنسبة للطرح الصحافي الذي يستمد سرعته من طبيعته وفنه فإننا نقول، بلغة الصحافة المشوبة بالمنهج: إن التجربة التركية التي يقودها حزب العدالة والتنمية ينبغي أن تناقش أو تقيم وفق معيارين اثنين:

أولا: معيار «النجاح الإنساني العام». فهذا نوع من النجاح يتعلق بـ«السنن الكونية العامة» المسخرة للبشر أجمعين، من حيث هم بشر، بغض النظر عن أديانهم، وإيمانهم أو إلحادهم. فأيما قوم باشروا السنن الكونية بعلم ومعرفة وجد وعمل، حصلوا على ثمار ذلك نهوضا وتقدما ونجاحا في التقنية والإدارة والاقتصاد – مثلا -.. والبرهان المادي الحاسم على ذلك أن دولة ككوريا الجنوبية، حققت معدلات اقتصادية مذهلة وفق تلك السنن الكونية العامة: «من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون». فكوريا الجنوبية لم تتقدم – في هذه الحقول – لأنها وحدت الله عز وجل، أو التزمت بالكتاب والسنة. ومن هنا فليست صحيحة تلك المقولة المطلقة «إن العالم لا يتقدم إلا بالإسلام». فالواقع يقول: إن العالم غير المسلم (اليابان وألمانيا وأميركا.. الخ) قد تقدم وتفوق في الكونيات. ذلك أن هذا النوع من التقدم متعلق بصفات الربوبية التي للناس جميعا منها حظوظ من حيث أن الله هو «رب العالمين»؛ كما يرزق الله غير المسلمين الطعام والولد، يرزقهم التقدم العلمي إذا باشروا الأسباب الكونية في الحالين.. وتلك العبارة تصح إذا قيدت على هذا النحو «إن البشرية لن تتقدم في مجال العقيدة والإيمان والعبادة إلا بالدين الحق»: «فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق»، ولا سيما أن الإسلام هو خلاصة الهدى الإلهي الذي دعا إليه الأنبياء جميعا.

والتجربة التركية – موضع المناقشة – ناجحة بهذا المعيار أو بمنطق السنن والأسباب الكونية العامة. فالحق أن الأتراك في هذه الحقبة أحسنوا الأخذ بالأسباب الاقتصادية المتنوعة (التخطيط والتنفيذ والمراجعة والتقويم)، فجنوا نجاحا معتبرا، بل باهرا، جعل الأتراك بوجه عام – ومنهم علمانيون وشيوعيون – يؤيدون حزب العدالة والتنمية في الانتخابات.

ثانيا: المعيار الثاني لتقويم التجربة التركية الماثلة هو: المعيار الإسلامي المعبر عنه – مثلا – بـ«قيم الأصالة».. ولسنا نرى أن نجاح هذه التجربة ينبغي أن يسبب بهذا المعيار، بل هو مسبب بالتخطيط العلمي الجيد كما ورد قبل ثوان.. ونصعّد الصراحة فنقول: إنه من الغلو تصوير هذه التجربة في «صورة النموذج الإسلامي المثالي» على مستوى الدولة.

لماذا؟

1) لأن قادة تركيا أقسموا على الولاء والوفاء لذات الدستور العلماني الذي وضعه أتاتورك.. وبالقطع فإن علمانية أتاتورك ليست قيمة إسلامية أصيلة.

2) ليس في برنامج حزب العدالة والتنمية – في المراحل كافة – أي اتجاه أو دعوة لتطبيق شريعة الإسلام. ومن المعروف – بالضرورة – أن تطبيق الشريعة شرط رئيسي من شروط تطبيق الإسلام كما ينبغي أن يطبق.. نعم.. هناك «ضرورة عدم الاستطاعة» – بالنسبة لحزب العدالة – وهي ضرورة معتبرة شرعا.. لقد كان ملك الحبشة النجاشي مسلما، على المستوى الشخصي، بيد أنه لم يطبق الشريعة، وهو معذور في ذلك كما قال علماء الإسلام النابهون الثقات، لكن الإعذار بالاضطرار لا يجيز وصف المضطر بأنه «قدوة ونموذج».

نحن نقدر أماني المسلمين في رؤية تجارب ناجحة، بيد أنها أماني يتوجب ربطها بالنظرة العلمية المنهجية الصحيحة: إحقاقا للحق، وإعمالا للمعايير السديدة، وتفاديا لصدمات نفسية تجلبها مآلات التوقع المبالغ فيه.. في الوقت نفسه ليس من حقنا أن نجور على التجربة التركية فنجردها من قيم الأصالة التي تكافح في سبيلها. بل نحن شهود على أن حزب العدالة والتنمية – والتجارب التي سبقته – قد أزال الوحشة والغربة عن الإسلام في تركيا، ومكن للتدين الشخصي من الممارسة والمعالنة، وهيأ مناخا جيدا لإحياء الروابط الاستراتيجية والحضارية بين تركيا ومحيطها الإسلامي الكبير، وغير ذلك من صور النجاح النسبي على هذا الصعيد، وهي صور يلزم التنويه بها من دون التورط في خطأ التسامي بها إلى درجة وصفها بـ«الإسلامية النموذجية». فهناك فرق كبير بين التعبير العاطفي عن أمنية تتمنى والوصف العلمي المنهجي لهذه التجربة أو تلك بأنها «إسلامية».

بقيت نقطتان:

الأولى: أنه ليس من الرشد المسارعة إلى صبغ كل تجربة إنسانية بحتة بصبغة الإسلام. ولذا انتقدنا تصوير أسطول الحرية رقم (1) في صورة إسلامية «جهادية». فالمكونات البشرية لذلك الأسطول ليست كلها مسلمة، بل فيهم خلق كثير من غير المسلمين، ومن هؤلاء: مغنون ومغنيات، دفعهم شعورهم الإنساني المجرد إلى ركوب المخاطر في سبيل إنقاذ الناس في غزة.. وفي تعميم وصف «إسلامي» ابتذال متهافت لهذه المفردة.. كما أن فيه «جهالة» أن الأخلاق الإنسانية الفاضلة «حكر» على المسلمين وحدهم!

الثانية: أنه يُخشى أن تُشنق التجربة التركية بـ«حبال العاطفة الإسلامية» المتأججة، وهي ظاهرة حذرنا منها عندما التفت حبال هذه العاطفة حول عنق باكستان، إذ وُصفت قنبلتها النووية بأنها «القنبلة الذرية الإسلامية»، وهو وصف داحض علميا، ومحرض على المسلمين عمليا. فالنتاج العلمي – في أي حقل – لا يوصف بهذه الديانة أو تلك، ولذا لم نسمع – مثلا – مصطلح «القنبلة الذرية اليهودية» أو الهندوسية!

المصدر: الشرق الأوسط – تركيا: تجربة ناجحة «نعم».. إسلامية نموذجية «لا»

تعليق:

هذا المقال يتناول التجربة التركية فعلا بمنظور متعمق وعلمي ومنهجي، بعيدا عن التأثيرات العاطفية الحالمة، يمكن القول أيضا بأن التوجه السياسي للتجربة التركية وسياستها الخارجية تحتاج هي الأخرى إلى دراسة أكثر عمقا، لأن فيها نقاط إيجابية كثيرة مقارنة بالسياسة الخارجية الأتاتوركية، ولكن أيضا عليها علامات استفهام قد تكون خطيرة، مثل العلاقة مع إيران والموقف الضعيف تجاه القذافي وبشار الأسد، ولكن تظل لغاية الآن معظم مواقف تركيا حزب العدالة والتنمية حمالة أوجه، فقد تكون خداعا لإيران وحلفائها، وقد تكون خداعا للشعوب العربية.

Scroll to Top