اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
القراءة … إنها المدخل الأول والرئيس لفقه الواقع، ولايمكن تخيل انتشار الوعي السياسي الحقيقي بدون انتشار القراءة، لأن جميع طرق الحصول على وعي سياسي حقيقي بعيد عن الخداع لا تأتي عن طريق مشاهدة الإفلام ولا مشاهدة نشرات الأخبار، ولا حتى قراءة بعض الكتب البسيطة، الوعي السياسي الحقيقي يحتاج للبحث والتنقيب، ويحتاج للتأكد من الأحداث، ويحتاج إلى إعمال التفكير في التحليل السياسي من أجل الحصول على فقه حقيقي وواقعي.
يقول الكاتب والأستاذ محمود عبد الرؤوف القاسم في كتابه “القرآن يتحدى” :
(( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [1] خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [2] اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ))[العلق]. إنها الآيات الأولى التي نزلت من القرآن الكريم.
يورد ابن كثير في تفسيره:
قال الإمام أحمد حدثنا.. عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة.. حتى فجأه الوحي وهو في غاز حراء فجاءه الملك فيه فقال: “اقرأ” فقال الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت ما أنا بقارئ ـ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال “اقرأ” فقلت ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال “اقرأ” فقلت ما أنا بقارئ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال “اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم..” اهـ.
لننتبه أن الوحي بدأ بكلمة “اقرأ” وحدها، كُررت ثلاث مرات متتابعات، ثم في الرابعة قُرنت بآيتين فيهما إشارتان، ثم في الخامسة قرنت ببقية الآيات التي صارت تتلاحق طيلة عهد الوحي.
بناء على هذه الظاهرة المميزة، أستطيع أن أضع كلمة “اقرأ” عنواناً للأطروحة الإسلامية بمجموعها. اقرأ. اقرأ. اقرأ. اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. إنها ليست إشارة، بل هي أمر واضح بالقراءة.
لكن القراءات متنوعة، فما هي القراءة المطلوبة من أهل القرآن؟ إن الآية تشير إلى نوع القراءة بوضوح، إنها تقول (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [1] خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [2])). هذه الإشارة الواضحة ((بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) تطلب منا أن تكون قراءتنا عن كل ما خلق، ثم تتبعها إشارة ثانية ((خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)) تبعث فينا الإحساس أو الرغبة بالتركيز على قراءةٍ عن الإنسان وخلقه..
فنحن، المسلمين، هل طبقنا هذا الأمر “اقرأ. اقرأ. اقرأ ـ اقرأ… اقرأ..”. وهل تفاعلنا مع الإشارتين (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [1] خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ))؟
ثم لننتبه إلى “اقرأ” الخامسة؟
إنها مقرونة بقوله سبحانه (( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [3]))، وقرنها بالقراءة، وهذا يعني أن كرم الله تعالى الأكبر يأتي مع القراءة. وتاريخ الشعوب أوضح دليل على ذلك. لنستقرئ التاريخ، فنرى قاعدة لا استثناء لها، هذه القاعدة هي أن الأمة التي تقرأ أكثر هي التي تسود الأمم.
فاليونان في التاريخ المعروف، ذلك الشعب الصغير، انتشرت فيهم القراءة انتشاراً واسعاً بالنسبة لغيرهم من الشعوب في ذلك العصر، وبالتالي انتشر العلم، فكانوا سادة الأرض في ذلك العصر. ثم خلفهم الرومان في الغرب والفرس في الشرق الذين كانت القراءة منتشرة فيهم، في عصرهم ذلك، أكثر من كل الشعوب غيرهم، فسادوا الأرض. ثم جاء المسلمون الذين كانوا أكثر الأمم قراءة وأوسعها عبر التاريخ السابق لهم، فسادوا الدنيا حتى بدأت القراءة تغيب من مجتمعاتهم شيئاً فشيئاً بتأثير الصوفية، فغابوا عن التاريخ وإن بقوا موجودين على سطح الأرض.
ثم جاء الغرب، الذي انتشرت القراءة في أهله بصورة لم يسبق لها مثيل، فسادوا الأرض، لقد انتشرت فيهم القراءة عن كل ما خلق الله سبحانه انتشاراً واسعاً جداً، أفقياً وعمودياً، وحسب سنة من سنن الله سبحانه في خلقه، أدى هذا الانتشار الواسع جداً إلى اكتشاف كثير جداً من أسرار الوجود.
ثم بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت القراءة تنتشر في كل الشعوب، فتطورت الإنسانية كلها. تطوراً مادياً وفكرياً، بلا أخلاق، وظهرت المفاهيم الإنسانية التي تنادي بحقوق الإنسان وحقوق الشعوب. إن الأمة التي تقرأ أكثر هي التي تسود وتظهر ولو كانت كافرة، والأمة التي لا تقرأ تنهزم وتذل ولو كانت مسلمة.
والملاحظة التي يجب الانتباه لها هنا، هي أن اليونان لم يكونوا أول الشعوب التي انتشرت فيها القراءة فسادت، بل سبقهم كثيرون، لكن ضاع تاريخهم في خضمّ التاريخ الضائع.