كتاب الفقه السياسي
هذا مثال واقعي قديم دلّ على وقوع المسلمين في حبائل التضليل السياسي، حين رأواالمعروف منكرا والمنكر معروفاً، فصدقوا الكَذَبَة، وكذّبوا الصادقين، وأتمنوا الخونة، وخونوا الأمناء، واهملوا الفقه السياسي.
كان هذا المثال في القرن الرابع من الهجرة في زمن الخلافة العباسية. فبعد أن وطدت الدولة الفاطمية العبيدية الشيعية أركانها في بلاد المغرب العربي، “بعث عبيدالله المهدي أول خلفائهم
جيوشه لافتتاح مصر، أكثر من مرة. وعلى الرغم من استيلائها سنة (302هـ-914م)، على بعض المدن المصرية كبرقة والاسكندرية والفيوم، إلا أنها ارتدت على أعقابها أمام المقاومة المصرية وجند الخلافة العباسية” ([1]) في عهد الدولة الإخشيدية. وفي سنة (332هـ-944م) أعادت الجيوش الفاطمية الاستيلاء على الاسكندرية، ولكنها رُدّتْ مرة أخرى.
وبعد هذا الفشل المتكرر الذي منيت به القوة العسكرية الفاطمية، أمام المقاومة المصرية وجند الخلافة العباسية، اعتمد المعز الفاطمي لإسقاط مصر على أسلوب الدعاية التحريضية من خلال “دعاة يبثون دعوته خفية، ويبشرون بالفتح الفاطمي”([2]).
واستمرت هذه الدعوات المشبوهة لعدة عقود في جو مشحون بالخلافات والفوضى والاضطراب في أواخر حكم الدولة الإخشيدية في مصر، فأخذ الشعب المصري ينقم على ولاة أمره، حتى وصلت المعارضة للخلافة العباسية إلى ذوي الشأن من الزعماء والجند، فقد كان فريق من أولئك الجند هم الذين دعوا الفاطميين إلى غزو مصر. وازداد سخط الشعب المصري على ولاة أمره، بعد أن تولى حكم مصر أسود خصي، اسمه (كافور).
وكانت الدولة الفاطمية تجلب إليها الأنظار بقوتها وغناها، فأصبح سواد الشعب المصري يؤثر الانضواء تحت لواء دولة قوية فتية، (الدولة )) ] ([3]) أهـ. فتم لهم السيطرة على بلاد مصر في منتصف شعبان سنة 358هـ. الفاطمية)، على الاستمرار في معاناة هذه الفوضى السياسية والاجتماعية التي سادت بلاد مصر. وهكذا ألفى الفاطميون حين مقدمهم إلى مصر، جواً ممهداً يبشر بتحقيق الفتح المنشود على خير الوجوه فإذا علمت أن نسب الفاطميين الشيعة يعود على الأرجح إلى اليهود([4])، وليس إلى المجوس، أدركت مدى درجة الغثائية التي كانت تتسم بها الشعوب الغافلة المسلمة في بلاد مصر، حيث استطاعت الجاسوسية اليهودية أن تنفث سمومها في عقولهم، مستخدمة شتى أنواع الدعاية المغرضة، فجعلتهم ينظرون إلى الدولة الفاطمية بروح الإعجاب، فصدقوا الكَذَبَة، وائتمنوا الخونة. وكذّبوا الصادقين، وخونوا الأمناء ولاة الأمر في دولة الخلافة العباسية، بل تآمروا عليها وعلى ولاة أمورهم، وانضموا إلى السياسة اليهودية لإسقاطها، بل رحبوا بها وفرحوا بنصر الكَذَبَة الخَوَنَة عليها، فماذا كانت نتيجة عدم الوعي، والتضليل السياسي الذي أصيبوا به؟
كانت النتيجة الدمار الشامل الذي أصاب الضرورات الخمس للحياة الإنسانية، فقد عطل الفاطميون الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبّوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادّعوا الربوبية. وصادروا الأملاك (التأميم)([5]).
فلما علم الناس حقيقـة أمرهم ضاقوا بهم ذرعـاً، وسبّوهـم ولعنوهم، حتى أصدر فيهم علمـاء العصر فتـوى تحذر منهم ومن شرهم وتبين لهم حقيقة أمرهم، وما كـان لهؤلا العلماء ولا لغيرهم من العامــة، أن يخدعوا بهذه الدعـوة الباطنيــة الكاذبـة ابتداءً، لو أنهم درسـوا عقائدهـا ومذهبها، ولما رحبــوا بهذه الدولـة الباطنيـة فــي بلادهم.
وهذا هو حكم علماء العصر فيهم، بعد أربع وأربعين سنة من احتلالهم لبلاد مصر، ينقله لنا ابن تغري بردي فيقول:
((السنة السادسة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر: وهي سنة اثنتين وأربعمائة، فيها في شهر ربيع الآخر كتب الخليفة القادر العباسي محضراً في معنى الخلفاء المصريين والقدح في أنسابهم وعقائدهم وقرئت النسخ ببغداد، وأخذت فيها خطوط القضاة والأئمة والأشراف بما عندهم من العلم بمعرفة نسب الديصانية، قالوا: وهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد الخرمي إخوان الكافرين ونطف الشياطين شهادة يتقربون بها إلى الله ومعتقدين ما أوجب الله على العلماء أن ينشروه للناس فشهدوا جميعاً أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم، حكم الله عليه بالبوار والخزي والنكال: ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد، لا أسعده الله. فإنه لما صار إلى المغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي هو ومن تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس، عليه وعليهم اللعنة، أدعياء، خوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، وأن ذلك باطل، وزور، وأنهم لا يعلمون أن أحداً من الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج أنهم أدعياء. وقد كان هذا الإنكار شائعاً بالحرمين في أول أمرهم بالمغرب، منتشراً انتشاراً يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم إلى تصديقهم، وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه، كفار وفساق فجار زنادقة ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية.
وكتب خلق كثير في المحضر المذكور الذي حرر في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة منهم:
الشريف الرضي، والمرتضى أخوه، وابن الأزرق الموسوي، ومحمد بن محمد بن عمر بن أبي يعلى العلويون، والقاضي أبو محمد عبد الله بن الأكفاني، والقاضي أبو القاسم الجزري، والإمام أبو حامد الإسفرايني، والفقيه أبو محمد الكشفلي، والفقيه أبو الحسين القدوري الحنفي، والفقيه أبو علي بن حمكان، وأبو القاسم التنوخي، والقاضي أبو عبد الله الصيمري. انتهى أمر المحضر باختصار. فلما بلغ الحاكم قامت قيامته وهان في أعين الناس لكتابة هؤلاء العلماء الأعلام في المحضر([6]).
وفي ترجمة ابن الشواء، أورد كمال الدين عمر بن أبي جرادة أنشودة له، يصف فيها تمكن اليهود في عصره:
يهود هذا الزمــان قد بلغوا غاية آمالهم وقــد ملـكوا
العز فيهم والمـــال عندهم ومنهم المستشــار والملك
يا أهل مصر قد نصحت لكم تهودوا قد تهود الفلك ([7])
وقد صور لنا الأستاذ محمد عبدالله عنان، مشهد انتقام شعب مصر وجيشه الساخط من الدولة الفاطمية التي خُدِعوا بها، والتي طالما لعبت في عقولهم، وعاثت في أرضهم الفساد، وحكمتهم بالحديد والنار، في صفحة (209-210) من كتابه: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)). فكانت نهاية دولتهم في سنة (411)هـ.
هذه إحدى التجارب المرّة التي لدغنا منها، ولم تكن هي الأولى أبداً، وليست الأخيرة قطعاً، فلا زلنا نلدغ من نفس الجحر اليهودي بأساليبه المتطورة مع الزمن بصور وأشكال متعددة، وحقيقته واحدة، بسبب عدم الاهتمام بالفقه السياسي. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
—————————–