الصوفية تقرر صحة قول فرعون ” أنا ربكم الأعلى “

نستمر في تلخيص كتاب الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ للكاتب الأستاذ محمود عبد الرؤوف القاسم، وقد مر معنا في الموضوع السابق ” وحدة الوجود عقيدة كل الصوفيين إلا المبتدئين “، فإن من نتائج عقيدة وحدة الوجود هي أن المشركين الذين يعبدون الأوثان والأصنام والأجرام والشمس والقمر والنجوم أو أي شيء إنما يعبدون الله !!، لأن كل شيء هو الله في عقيدة وحدة الوجود – تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا – وهنا لدينا قول صريح للغزالي إمام الصوفية الأكبر في كتابه ” إحياء علوم الدين ” بأن الصوفية ترى أن فرعون القائل ” أنا ربكم الأعلى ” هو كما قال، ويقر الغزالي بهذا الكلام.

مر معنا ويمر هنا وفي كتبهم مصطلح (المشاهدة) والفعل منه (شاهد، يشاهد)، فماذا يعنون به؟ يقول القشيري: (…وتوهم قوم أن المشاهدة تشير إلى طرف من التفرقة؛ لأن باب المفاعلة في العربية بين اثنين، وهذا وهم من صاحبه، فإن في ظهور الحق سبحانه ثبور الخلق، وباب المفاعلة جملتُها لا تقضي مشاركة الاثنين، نحو: سافر، وطارق النعل، وأمثاله([1])

– يفهمنا القشيري أن المشاهدة لا تكون بأن تشاهد الله سبحانه خارجاً عنك، فتكونا اثنين، لا، بل تشاهده في ذاتك، تشاهده أنك هو، إذن، منذ الآن، يجب أن نفهم مصطلح (المشاهدة ومشتقاتها) في كلام القوم حسب هذا المعنى. (مشاهدة الله تعني الاستشعار بالألوهية أو ذوق معنى الألوهية).

ويقول أبو حامد الغزالي (حجة الإسلام، الإمام): …فمن عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه عرفه، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه سيبطل في ثاني الحال، بل هو الآن باطل([2])

– يبين لنا الغزالي هنا كيف يفهمون الجملة (كل شيء ما خلا الله باطل)، والآية ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88]، ومنذ الآن يجب أن نعرف كيف يفهمونها، ولا نحاول التأويل واللف والدوران مثلهم.

ويقول: …واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية، وأن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر، وهي عالم الملكوت([3])

– يبين الغزالي هنا أن حضرة الربوبية هي عالم الملكوت! فما هو عالم الملكوت؟

يشرحه ابن عجيبة بقوله: (مراتب الوجود هي العوالم الثلاثة: الملك والملكوت والجبروت، وذلك أن الوجود له ثلاثة اعتبارات: وجود أصلي أزلي، وهو الذي لم يدخل عالم التكوين، ويسمى عالم الأمر، وعالم الغيب، وهو المسمى بعالم الجبروت. ووجود فرعي، وهو النور المتدفق من بحر الجبروت، وهو كل ما دخل عالم التكوين لطيفاً كان أو كثيفاً، ويسمى عالم الشهادة، وعالم الخلق، وهو المسمى بعالم الملكوت([4])..

– إذن فحضرة الربويية يعني بها (الكون)، وسنرى هذا في نص آت، وقول ابن عجيبة: (وهو النور المتدفق من بحر الجبروت)، هو نفس نظرية (الفيض) اليونانية، والعريقة في تاريخ الوثنيات.

ويقول الغزالي أيضاً: …نعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية.. وإلى صفات سبعية.. وإلى صفات شيطانية.. وإلى صفات ربوبية.. فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع؟! ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال؛ فصار الكمال من صفات الإلهية، فصار محبوباً بالطبع للإنسان. والكمال بالتفرد بالوجود، فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة؛ فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية.

والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به… وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى.. فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة.. فإذاً معنى الربوبية التفرد بالوجود، وهو الكمال…ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]، ولكنه ليس يجد له مجالاً، وهو كما قال([5])…).

– هذا النص مشحون، لكن أهم ما فيه هو:

1- استعمال الغزالي أساليب علم الكلام لإثبات أمر غيبي تتعذر معرفته إلا عن طريق الوحي.

2- قوله: (المنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه) يعني: أن الله جلت قدرته، لم يخلق شيئاً من العدم، إذ لو خلق شيئاً من العدم لكان هذا الشيء غير الله، ولكان مع الله موجود آخر غيره، لكن الحجة يقرر أن ليس مع الله موجود سواه، وهذه هي: (وحدة الوجود).

3- إعطاؤه لكلمة «الربوبية» معنى لم يرد عن خير البشر، ولا عن خير القرون، ولا عن تابيعهم.

4- إيراده القول الذي يعزوه إلى بعض مشايخ الصوفية والذي يفيد:

أ- إن فرعون رب في الباطن، وقد صرح بهذه الربوبية. لننتبه إلى كلمة (صرّح).

ب- هذه الربوبية هي في باطن كل إنسان، أي: أن كل إنسان هو رب في الباطن، لكنه لا يجد مجالاً لاستشعار هذه الربوبية أو للتصريح بها مثل فرعون.

5- تقرير الغزالي صحة هذا القول لقوله: (وهو كما قال).


([1]) الرسالة القشيرية، (ص:40).

([2]) إحياء علوم الدين: (1/254).

([3]) إحياء علوم الدين: (1/242).

([4]) الفتوحات الإلهية حاشية إيقاظ الهمم، (ص:109).

([5]) إحياء علوم الدين: (3/243).

Scroll to Top