يمكن القول بأن مجموعة الجزيرة الإعلامية هي التي رسمت ملامح الثقافة العربية في العقدين الأخيرين بعد أن بنت امبراطوريتها الإعلامية على أنقاض قناة البي بي سي اللندنية وأنجبت قناة الحوار . تلك الثقافة المبنية على نظرية المؤامرة وصدام الحضارات والانتقال من ثقافة الهزيمة إلى ثقافة صناعة أوهام النصر مستخدمة أسلوب التضخيم والتقزيم , والتقاّط الأخبار المعزولة واصطياد التحليلات الشاذة ، ولقد تبنت مجموعة الجزيرة الإعلامية قضيتين كبريين وبحماسة بالغة هما : قضية الخلافة وقضية فلسطين .
أولا- قضية الخلافة : حيث تنطلق الجزيرة من اعتبار إقامة الخلافة أوجب الفروض وعزَّ الإسلام والمسلمين والدار التي تحتضن الرعايا المسلمين وتتبنى قضاياهم أينما كانوا ، وبناء عليه فإن الجزيرة تطرح المسألة على أنها قضية أمة وتاريخ ، ولذلك فإنها ترعى جناحين إسلاميين كبيرين هما : الإسلام السياسي والإسلام العسكري .
يتمثل الإسلام السياسي بجماعة الإخوان المسلمين الذين يشغلون الحيز الأكبر من اهتمام الإعلام الجزراوي ولا أدل على ذلك من سيطرة الشيخ ” يوسف القرضاوي” على برنامج ” الشريعة والحياة ” لسنين عديدة على الرغم من رسائل الاعتراض المتكررة من طيف من جمهور الجزيرة ، ولقد رأينا رعاية الجزيرة لإخوان مصر حتى وصلوا إلى السلطة , ووقفوا معهم في مرحلة سقوطهم المدوي ولا زالت تخطط لإعادة إنتاجهم بعد هبوط أسهمهم إلى الحد الأدنى منذ عقود من الزمن .
وعلى الضفة الثانية نجد أن الجزيرة ترعى تنظيم القاعدة على اعتباره – وفقا للجزيرة – القوة الضاربة والسلطة الجهادية الحامية لحمى المسلمين ، وتحرص مجموعة الجزيرة على تقديم القاعدة كظاهرة تاريخية محترمة لها منظروها ومفكروها الذين يحجزون مكانا خاصا في الجزيرة بين الفينة والأخرى ، وتوضح الجزيرة أن للقاعدة كل المبررات الموضوعية للظهور وأنها ظاهرة تمليها نظرية صدام الحضارات حيث تبدو القاعدة وكأنها في طليعة الأمة حين تتقدم لتأخذ دورها وسط تراجع أدوار الآخرين ، وللجزيرة وثائقيات متعددة تتحدث عن صعود دور المسلمين في صناعة الحضارة الإنسانية بل وقيادتها ، وإذا ساءت أحوال القاعدة وقل رصيدها فإن الجزيرة تصفها بأنها ردة فعل على ممارسات الغرب ضد المسلمين طارحة بذلك نظرية المظلومية باعتبار العالم مجمع على استهداف الإسلام والمسلمين ، وعندما ترتكب القاعدة جرما سافرا يصعب تغطيته فإن الجزيرة تستخدم نظرية المؤامرة للإيحاء بأن القاعدة صناعة أمريكية أو على الأقل تصف الحدث الإجرامي بأنه من ترتيب الغرب .
ثانيا- القضية الفلسطينية : وتقدمها الجزيرة على أنها قضية العرب الأولى التي لا تعلوها قضية فتبرز إسرائيل كعدو أول للأمة العربية , ويبرز الكفاح الفلسطيني على أنه الكفاح الأول وربما الأوحد ضد الطغاة ، كما تبرز المعاناة الفلسطينية وكأنها جرح مفتوح لا ينبغي الالتفات إلى غيره من المصائب والعذابات مهما بلغت ، ومن أجل تلك القضية حرصت الجزيرة على صيانة ” محور المقاومة والممانعة ” وذلك بالتقليل من حجم ممارساته الإجرامية مهما اشتدت ، وبإبراز مكامن القوة لهذا المحور فلا توفر الجزيرة فرصة للحديث عن شكل من أشكال القوة إلا وتبرزه لهذا المحور ، وتحرص على إظهاره بالرقم الصعب في معادلة القوة والحل لا يمكن تجاوزه ، وعندما يسرف هذا المحور في التمادي بالجريمة القذررة فإنها تغطي شر أعماله طارحة نظرية المؤامرة على اعتبار أن شرور هذا المحور المقاوم جاءت هذه المرة مدعومة من الغرب .
بعد هذا الرصد الموجز لأبرز اهتمامات الجزيرة يمكن القول بأن استراتيجية الجزيرة الإعلامية تطرح القضيتين الأممية والقومية وتدعم من يقدم نفسه أو تقدمه الجزيرة على أنه يرعى هاتين القضيتين من إخوان مسلمين وتنظيم القاعدة ومحور الممانعة وملحقات هؤلاء من النخب والعلماء .
بعد هذا الرصد الموجز لأبرز اهتمامات الجزيرة يمكن القول بأن استراتيجية الجزيرة الإعلامية تتبنى القضيتين الأممية والقومية معاً وتدعم من يقدم نفسه أو تقدمه الجزيرة على أنه يرعى هاتين القضيتين من إخوان مسلمين وتنظيم القاعدة ومحور الممانعة وملحقات هؤلاء من النخب والعلماء .
وفي التفاصيل تظهر التناقضات الصارخة التي تقع فيها الجزيرة وهذه التناقضات ظهرت بعد الثورة السورية .
في البداية كان المشروعان القومي والأممي متصادمين تصادما حقيقياَ صارخاً ، وقد بدأ التصادم بعد سقوط الخلافة العثمانية وقيام الغرب بدعم المشروع القومي ليحل القومي العربي محل الأممي الإسلامي ، وقد كان الأمميون ينظرون إلى القومية بوصفها فكرة جاهلية حيث يقوم الرابط الاجتماعي على فكرة رباط القوم وليس رباط الدين , وينظر القوميون إلى الأمميين على أنهم متخلفون أو متطرفون .
ومع تطاول الزمن هدأت المعركة بين الفريقين ثم حدث التقارب بينهما حيث اقتربت تيارات الفكر القومي من تيارات فكر الإسلام السياسي وذلك لسببين : الأول هو ابتعاد حلم إعادة الخلافة عن الواقع بعد المتغيرات الكبيرة في العالم ، والثاني هو كون القضية الفلسطينية تحتوي على البعدين الديني والقومي معاَ باعتبار فلسطين دولة عربية وفيها المسجد الأقصى أولى القبلتين ، وعندما اشتد وطيس الكفاح الفلسطيني في سبعينيات القرن الماضي سارعت كل الاتجاهات لدعمه فتقاربت المواقف أكثر .
بعدها ولدت قناة الجزيرة من رحم قناة البي بي سي اللندنية وارثة عنها كثيرا من الوثائقيات التي تميل إلى الرؤية القومية في قراءة الأحداث ، وعملت الجزيرة على رعاية التيارين ، واستطاعت – ببراعة – الجمع بينهما ، مؤكدة على أهمية حضور المحاور الثلاثة : محور المقاومة والممانعة الذي يضم : ايران وسورية وحزب الله وحركة حماس والجهاد الإسلامي وقطر إلى حد ما ، وهو المحور الذي يرفع شعار تحرير فلسطين ، ومحور الإسلام السياسي مثمثلا بالإخوان المسلمين إلى درجة كبيرة وحزب التحرير، وهو المحور الذي يتبنى إقامة الخلافة ، ومحور الإسلام العسكري مثمثلا بالقاعدة وهو المحور الذي يتبنى فوضى الأهداف عموماَ كإقامة الخلافة وضرب الطغاة واستهداف المصالح الغربية .
إن المشروع الأممي يحمّل الغرب مسؤولية التآمر على الخلافة ويعتبر الغرب العدو اللدود لقضايا ألامة ، كما أن المشروع القومي يحمل الغرب مسؤولية احتلال فلسطين ، وباعتبار الجزيرة تتبنى هذين المشروعين فإنها تجد نفسها تتبنى عداء الغرب وتبني خطابها الإعلامي على هذا الأساس ، الأمر الذي جعل الجزيرة تعتمد سياسة تصيّد الأحداث الشاذة والأخبار المعزولة وتضخيمها لتصبح مادة إعلامية مقبولة تؤسس لثقافة ضارة حيث تصنع من الأوهام نصراَ ومن الخيال مجداَ ، كما تنتهج نهج إثارة العواطف وتنمية الشعور المعادي للغرب .
الواضح في سياسة التحرير لقناة الجزيرة أنها تقدّم ما هو أممي على ما هو قومي عندما يتصادمان ، ففي حالة الربيع العربي لمسنا في الجزيرة حماساَ ملتهباَ في دعم الثورات عندما يكون للإخوان نصيب منها حدث هذا في تونس ومصر بشكل واضح ، ومن جهة أخرى فإن الجزيرة دعمت الثورات ضد أنظمة الاعتدال المناهضة تقليديا لمحور المقاومة .
وفي الثورة السورية تلكّأت الجزيرة عن دعم الثورة السورية على اعتبار أنها قامت ضد أحد أركان محور الممانعة ، ولكن عندما ارتفعت حظوظ الإخوان المسلمين في السلطة وجدنا الجزيرة مهتمة بالثورة السورية ، حتى إذا دارت الدائرة على الإخوان لصالح الليبراليين أو الديمقراطيين لاحظنا تخلي الجزيرة عن الثورة السورية لصالح نظام الممانعة ، وحين يبرز دور ما للجماعات الإسلامية المرتبطة بالقاعدة تبادر الجزيرة إلى إبرازه ، وعندما يتقدم فصيل مجرم كحزب الله محسوب على الممانعة ليغزو سورية فإن قناة الجزيرة لا تعيره الانتباه اللازم والكافي لكيلا تهتز صورة المقاومة ، كما لو قام هذا الكيان باستهداف جنود اسرائيليين .
يمكن القول : إن الثورة السورية أربكت سياسة التحرير لشبكة الجزيرة ، ووضعتها في موقف شديد الحراجة بحيث يكون اعتزال الشأن السوري هو الخيار الأفضل ، فلا مجال للجزيرة أن تفاخر بمحور المقاومة فمحور المقاومة هو اليوم من يرتكب كل الانتهاكات في سورية ، ولا مجال للجزيرة أن تعلي من شأن تنظيم القاعدة وقد ظهرت منه إساءات لا تستطيع الجزيرة تحمل تبعاتها وخاصة تنظيم داعش الذي يستهدف الثوار السوريين ، ولا تريد الجزيرة أن تبرز إسهامات الجيش الحر في الثورة على اعتبار أن الحر هو خيار الغرب ويتلقى الدعم من الغرب والسعودية ,
من هنا نستطيع تفسير لجوء الجزيرة إلى الصمت حيال الملف السوري مع أنه أغنى ملف في التاريخ بالمواد الإعلامية ، لكن الماكينة الإعلامية التي تبدو خارج الخدمة اليوم يمكنها أن تتحرك فيما لو أنجز محور المقاومة نصرا على اسرائيل ولو كان شكلياَ ، أو تمكن تنظيم القاعدة من توجيه أي ضربة للغرب مهما كانت تافهة ، أو تصدر المشهد الثوري مكوّن الإخوان المسلمين .
الكاتب والباحث السياسي : عبد الناصر محمد .