بين انهيارين (التربة والمجتمع)
نحن نعلم بأن الانسان خلق من طين، حيث تبين لنا أن جميع عناصر جسمه موجودة أصالة في التربة، ولهذه العناصر خصائصها الفيزيائية والكيميائية الكونية… ففي الظروف المثالية تحافظ التربة على استقرارها من الانهيار حتى تتعرض لعمليات تُغيِّر معينة في ظروفها الطبيعية فتحرمها من الاستقرار وتعرضها لسوء الانهيار.
وهذا الانهيار يرجع أساسًا إلى انخفاض في قوة قص مادة المنحدر، أو ازدياد ضغط القص الواقع على المادة، أو كليهما معًا. ولِكي يتغيُّر استقرار التربة لا بد من توفر عدة عوامل، قد تجتمع أو تنفرد.
في المقابل، فإن المجتمعات الأولى التي خلقها الله تعالى كانت على الفطرة مستقرة مطمئنة آمنة ما دامت تحافظ على ظروف خلقتها الأولى، أي: تقوم على سنن كونية وشرعية مترابطة، بعيدة عن عوامل الشدّ والضغط المعاكس لتلك السنن.
قال الله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). فهذه هي الفطرة الربانية الآمنة للناس.
وقال تعالى: (كانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ۚ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ)، ودلالة الآية واضحة في تجلية المقصود.
فإذا عاند الناس ما خُلقوا لأجله، وأحدثوا واعتدوا على السنن الشرعية والكونية والفطرة الإنسانية، جاء الانهيار الجزئي أو الكلي بحسب مقدار المخالفات المجتمعية.
قال تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
إذن هذه سنة كونية لا تتغير ولا تتبدل، وهي ان الله تعالى لا يغير حال قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فيعتدون على السنن الحاكمة.
قال الله تعالى: (ٱسْتِكْبَارًا فِى ٱلْأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِۦ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلًا)
وعليه، نخلص إلى قوله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، وهدى الله هو سنة الله الخَلقية والشرعية.
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ). وهذا هو الانهيار والخسران المبين).
اللهم إنا نسألك الأمن والأمان ودوام الثبات والاستقرار من الانهيار، وعدم زلة الاقدام.
ألا تستطيع أن تكون مباركاً أينما كنت؟
قال تعالى: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّاً)، وقد اختلف أهل تفسير في تفسير مباركاً، على أقوال، كلها تدلّ على حقيقة واحدة، منها: آمراً بالمعروف، نفّاعاً، معلماً للخير والتوحيد، وغيره.
ومثل هذا، قوله صلى الله عليه وسلم: (اتّق الله حيثما كنت).
وقوله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
ففي الطبريّ، قال البخاري: قال سالم: الموت. وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره.
والدليل على ذلك أنّ معنى اليقين هنا الموت وليس كما ادّعى غلاة الصوفية أنه الكشف، قوله تعالى إخبارا عن أهل النار أنهم قالوا: (لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين).
أحوال الجهاد الخمسة
1- جهاد النفس: وهو جهاد النفس في الأمر والنهي، ومنه على تعلم الدين، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، وتجنّب المحرمات والمكروهات.
قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ [1] إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [2] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [3]} [العصر: 1- 3].
2- جهاد الشيطان: وهو جهاد الشيطان على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشهوات.
قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [6]} [فاطر: 6].
3- جهاد أصحاب الظلم والبدع والمنكرات:
ويكون باليد إذا قدر، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب، ويكون بالحكمة حسب الحال والمصلحة حتى لا تحصل فتنة.
قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [125]} [النحل: 125].
وَعَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ». أخرجه مسلم.
4- جهاد المنافقين: وجهاد المنافقين يكون بالبيان ودرء الشبهات لا بالسيف، خاصة ان النفاق أمر قلبي لا سبيل الى القطع بنفاق البعض بسهولة أبداً.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [9]} [التحريم: 9].
5- الجهاد في سبيل الله ضد (الكفار) المعتدين.
قال الله تعالى:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). البقرة 190
وقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [15]} [الحجرات: 15].
العبرة: فهذه أصناف خمسة او أحوال خمسة للجهاد كلها متاحة لأفراد المسلمين بشروطها إلا الخامس منها (جهاد الكفار المعتدين)، فإنه يحتاج الى شروط أهمها، وليّ أمرٍ وراية ونكاية.
فمن اختزل صور الجهاد كلها بجهاد الكفار سواء كانوا أصليين، أم مرتدين فقد زلّ.
عدنان الصوص