من الشائع في كثير من اﻷحيان أن تكون آليات اﻹقناع في الدعاية الفكرية أو العلمية مبنية فقط على أساسات علمية ومنطقية، بحيث أنها تفترض أن الطرف المتلقي أو الجمهور المستهدف هو جمهور عقلاني يستمع بسهولة لصوت العقل والمنطق، إلا أن غالبية النتائج تعطي إشارات كثيرة أنه ليس هذا هو واقع الحال، وأن الجمهور عادة يتأثر بالعوامل النفسية والعاطفية أكثر من مخرجات التسلسل المنطقي للأمور. وهناك العديد من الأمثلة الواضحة، سواءً في واقع انتشار وباء الكورونا، أو في واقع الثورات الشعبية والانقلابات العسكرية.
ظاهرة الشعور بالذنب
تواجهنا كثيراً صعوبة في إقناع الناس باتخاذ إجراء من شأنه أن يؤدي إلى مفاسد أقل من المفاسد المرتبة على عدم اتخاذه، مثل أخذ لقاح كورونا، لكن المشكلة بالضبط هي أن الناس يشعرون بالذنب أكثر اذا حصلت مشكلة صغيرة (آثار اللقاح المحتملة) ناتجة عن “فعل شيء” أكثر من الشعور بالذنب عن مشكلة كبيرة (استمرار انتشار الوباء) نتيجة “عدم فعل شيء”، فنا نجد أن عدم فعل شيء أهون على الضمير ولو النتائج أسوأ بكثير!
قد يكون تفسير وجود هذا العامل النفسي بأنه غريزة وضعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان لكي يشعر بالفرق بين الابتلاء الذي يحصل بدون ذنب، والعقوبة التي تحصل بسبب ارتكاب ذنب، ففي الابتلاء يكون اﻹنسان وضعه النفسي أفضل، بينما في العقوبة يجب أن يشعر بالخزي ﻷن “فعل الذنب” هو سبب مصيبته. ولكن ترك هذه الغريزة النفسية بدون توجيه، يبدو أنه يؤدي لرفض الناس ﻷخذ اللقاح!
هذه الظاهرة هذه أيضاً لها دور في تنفسير رفض الكثيرين للثورة السورية رغم أن نتائجها غالباً (على شدتها) تظل أهون من عدم وقوعها! وذلك مثل ما حدث للشعوب العربية في العراق ولبنان وعربستان والتي لم تقم بثورة كبيرة ضد إيران. ورغم كثرة الحديث والشرح بأنه لولا الثورة السورية لكان الدور في الربيع العبري سيكون على اﻷردن والسعودية أوسيكونون بوضع لا يحسدون عليه، إلا أن القليل من يقتنع بهذه النتيجة (قبول الثورة السورية) رغم أنه مقرٌ بالمقدمة.
نلاحظ أن هذا العامل النفسي يجب أخذه بعين الاعتبار عند محاولة إقناع الناس بالقيام بفعل يندرج ضمن توازن المصالح والمفاسد،
بينما لا نحتاج أن نطلب منهم فعل شيء عندما تكون المفسدة الصغرى ستحصل نتيجة عدم القيام بشيء. فمثلاً، في حالة وجوب عدم النهي عن منكر معين في الوقت الذي عندما يؤدي لمنكر أكبر، في مثل هذه الحالة من السهل جدا أن تتوقف عن النهي عن هذا المنكر، لأن كل المطلوب هو عدم فعل شيء ببساطة!
ظاهرة عدم اتعاظ الجمهور من العبر
من السهل أن يتعظ الفرد من عبرة معينة، كما يقول المثل الشائع، السعيد من اتعظ بغيره، أو حتى من يتعظ بنفسه بتطبيق الحديث الشريف: ” لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”. ولكن تظهر المشكلة عندما نطلب من الجمهور الواقع تحت ضغط الظلم والفساد عدم القيام بثورة أو عدم تأييد انقلاب عسكري، بسبب أن ذلك يؤدي إلى مفسدة أكبر، وذلك بالتأكيد بناءً على مقارنة بأمثلة حقيقية من الواقع مثل قصة ندم الشعب المصري قديماً على الملك فاروق، وما شابه من قصص عديدة مماثلة.
فالذي يحصل هنا ليس أن الجمهور سيتمكن من فهم المطلوب ثم الترجيح بين المفسدة والمصلحة، ولكن الواقع هو أن الناس لا يستطيعون الشعور بوضع أسوأ مما هم فيه أو مجرد تخيله، ولا يصدقون بوجود مثل ذلك إلا بعد القيام بالتجربة بأنفسهم، ومع أنه في حالات نادرة يمكن لهم الاتعاظ من نماذج معاصرة لهم في الوقت الحاضر وليس حتى في ماضٍ قريب، مثل اتعاظ الشعوب العربية بفشل الثورتين المصرية والتونسية التي يرون مشاكلهما أمام أعينهم، ولكن هذا التأثير على اﻷرجح سيكون مؤقتاً لعدة سنوات فقط، وقد ذكر غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجيا الجماهير” بأنه من شبه المستحيل انتقال العبرة أو التجارب التاريخية من شعب بأكمله إلى آخر.
من المهم استحضار الوضع النفسي بدقة ووضوح، فالشعب يشعر بظلم شديد بالنسبة له، وهو لم يعرف له من قبل مثيلاً بحسب معلوماته وتجاربه، وهنا يريد التخلص من هذا الظلم بالقيام بثورة، وبالتأكيد هو على علم بأن الثورة تتضمن مفاسد، إلا أنه يتصور أن مفاسدها ستكون أقل نظراً لعدم تجربتهم لمثلها من قبل، وأيضاً لعدم قراءتهم للتاريخ والاعتبار منه، فالذي يحدث أنه تترجح لديهم المصلحة بعمل ثورة على المفسدة، ولا يشعرون بذنب النتائج إلا بعد وقوعها وتبلور إمكانية مقارنة الواقع الجديد مع الواقع السابق.
وهنا تظهر حركات سياسية مثل “آسفين يا ريس” في مصر وما شابه، وفي كثير من اﻷحيان أيضاً، حتى عندما يكون النظام السياسي الجديد أفضل بالعموم، فإنه يغلب على الناس الحنين إلى الماضي فيتذكرون منه الإيجابيات فقط دون السلبيات، فتراهم مثلا يحنون لعودة الاتحاد السوفياتي أو الطاغية القذافي أو ما شابه من طغاة لو عادوا لما أطاق الشعب عودتهم أكثر من ثلاثة أيام.
ولا بد أن يكون الحل لمثل هذه الحالات ليس بالانسياق وراء رغبات وعواطف الجمهور، ولكن بأخذ هذه العوامل في الحسبان، فمن الممكن تحسين الدعاية والتوجيه الفكري نحو اعتماد طرق من شأنها تحسين فعالية وكفاءة اﻹعلام اﻹيجابي الهادف لإرشاد الشعوب نحو مصلحتها.
زاهر طلب
16/8/2021