إن النبي صلى الله عليه وسلم ما عَلِمَ لنا من خير يقرِّبنا من الجنة، إلا وحدثنا به، وما علم لنا من شرٍّ يقربنا من النار إلا وحذرنا منه. ومن جملة ما حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم، حديثه عن طائفة تخرج على المسلمين من الفينة إلى الفينة، تعيث في الأرض فساداً؛ فتسفك الدماء، وتروع الآمنين، تتخذ من الدين رداء لها. إذ روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ“.
وروى ابن ماجه عَن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يَنْشَأُ نَشْءٌ يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ”. قال ابن عمر: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ -أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً- حَتَّى يَخْرُجَ فِي عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ“.
وإن هذه الطائفة الضالة إنما أتيت من عجبها وغرورها وسوء فهمها، إذ تصورت أنها فاقت الصحابة تقوىً وعلماً، وأنها فهمت الدين أحسن وأكثر من الصحابة أنفسهم الذين نقلوا لنا الدين. لذلك، كفروا سادة الصحابة رضوان الله عليهم. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فروى الإمام أحمد في مسنده، عن أَبي سعيد الخُدْريّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ، كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ”. قَال أبو سعيد: فَاسْتَشْرَفْنَا وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ: “لا، وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ (يعني علي بن أبي طالب، وكان قد ذهب يخصف -يصلح ويخيط- نعلاً للنبي صلى الله عليه وسلم)”. قال: فَجِئْنَا نُبَشِّرُهُ. قال: وَكَأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ.
ورحم الله ابن عمر إذ يقول عن هذه الطائفة، مبيناً سبب ضلالها وانحرافها، فقال الإمام البخاري في صحيحه: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللهِ، وقال: “إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ” (وصله الطبري في “تهذيب الآثار” بسند صحيح عنه كما قال شيخنا الألباني -رحمه الله- في مختصر صحيح البخاري).
إذن، فحربنا مع هذه الطائفة الضالة حرب طويلة. فنحن بحاجة إلى تصويب الأفهام المنكوسة، والآراء المعوجة التي تبثها هذه الطائفة في الأمة نتيجة جهلها بالدين وسوء فهمها له. فهي حرب بالقلم واللسان، ثم بالسيف والسنان. وقد بشر النبي صلى الله علي وسلم أمته بالثواب العظيم لمن قاتلهم أو قتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: “شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَخَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوا” (رواه ابن ماجه، وحسنه شيخنا الألباني).
بل حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من أن تأخذها في هؤلاء رقة أو رأفة، فقال صلى الله عليه وسلم: “لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ” (رواه البخاري ومسلم). وقال صلى الله عليه وسلم عنهم: “كِلاَبُ أَهْلِ النَّارِ” (رواه ابن ماجه، وحسنه شيخنا الألباني). وقال صلى الله عليه وسلم: “هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ” (رواه أبو داود، ورواه مسلم في صحيحه بلفظ: “هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ” أَوْ “مِنْ أَشَرِّ الْخَلْقِ“).
أقول: وكان هؤلاء مع تظاهرهم بالدين وحبه ونصره، أبغض خلق الله إليه، وشر الخلق مع وجود من هو أشد كفراً منهم؛ لأنهم كَذَبوا على الله، فنسبوا فسادهم إليه ولدينه، وسفكوا الدم الحرام واستباحوا دماء الناس لأدنى شبهة؛ فلا توجد في قلوبهم رحمة ولا رأفة. بل من عجيب أمرهم وغريب أحوالهم، كما صفهم النبي صلى الله عليه وسلم: “يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ” (رواه البخاري ومسلم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الإخنائي: “وعظم ذنبهم بتكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم. وإلا فلو لم يفعلوا ذلك، لكان لهم أسوة أمثالهم من أهل الخطأ والضلال“.
أقول: فكم باسم الدين من دم معصوم سفكوه، ومال نهبوه، وفرج حرام اغتصبوه. والله تعالى يقول في كتابه العزيز: “… وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ…” (القصص، الآية 77). وقال أيضاً: “… وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ…” (المائدة، الآية 64). وقال تعالى: “وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ” (البقرة، الآية 205). وقال سبحانه: “وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” (البقرة، الآية 190).
ومن هنا، قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: “الخوارج قوم سوء، لا أعلم في الأرض قوماً شراً منهم” (رواه عنه الخلال في السنة).
فإذا اتضحت لك أخي الفاضل تلك المقدمة، فاعلم أن الناظر والمتابع لأحوال “الدواعش” لا يشك قيد أنملة في أنهم طائفة من الخوارج البغاة، وأن أحاديث النبي صلى الله وعليه وسلم في ذم الخوارج وفتنتهم، منطبقة بلا أدنى ريب عليهم؛ فهم يكفرون المسلمين بالذنوب، ويكفرون المخالف لهم ويسمونه مرتدا. ورتبوا على هذه المصائب استباحة دماء المسلمين المصلين، وارتكبوا العظائم والمنكرات الكبار، ولم يسلم من شرهم النساء والشيوخ والصغار؛ يقتلون الناس بدم بارد، ولا تأخذهم رأفة ولا رحمة، كما كان يفعل أسلافهم الخوارج الأول. بل زادوا عليهم التمثيل بالجثث، وقطع الرؤوس واللعب بها، في مناظر تقشعر منها الأبدان، وتنفر منها قلوب الموحدين. ومن آخرها، ولا أقول آخرها، ما فعلوه بالطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي نحسبه شهيداً، ولا نزكي على الله أحداً، تاركين قول رسول الإسلام الرحمة المهداة: “وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللهُ” (رواه البخاري)، وناسين قول ابن قدامة -رحمه الله- وهو من أعلم الناس بأقوال العلماء ومواطن خلافهم، إذ يقول في “المغني”: “أَمَّا الْعَدُوُّ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ، فَلا يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ بِالنَّارِ، بِغَيْرِ خِلافٍ نَعْلَمُهُ”. فإذا كان العدو الكافر لا يجوز تحريقه بالنار، فكيف بمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟!
ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول في كتابه “الأم”: “أَمَّا نَحْنُ فَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُعَذِّبَ أَحَدٌ بِعَذَابِ اللَّهِ. فَقُلْنَا بِهِ، وَلَا نُحَرِّقُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا”. وعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمارٌ قد وُسِمَ في وجهه فقال: “لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ”. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لعن من وسم دابة، فكيف بمن حرق إنساناً بل مسلماً؟!
وأما قتلهم المستأمنين، وهم من دخلوا ديار الإسلام بأمان من ولي الأمر، فحدث عنه ولا حرج، مع أن علماء الإسلام مطبقون ومجمعون على أن غير المسلم إذا دخل بلاد الإسلام بأمان من مسلم حرم قتله أو التعرض له بأذى. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ وَالزَّجْرُ وَالْوَعِيدُ فِي قَتْلِ المعاهدَ -وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ- كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “من قتل مُعاهِدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَاما“.
وفي الختام، لا يشك مسلم أن أفعال هذه الطائفة الضالة لا تمت للإسلام بصلة، وأن نبي الإسلام بريء منهم ومن أفعالهم. وواجب كل مسلم أن يتبرأ منهم ومن أفعالهم التي تصب في خدمة أعداء الأمة والملة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين: “… وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ” (الشعراء، الآية 227(.
عصام موسى هادي