الشبهة الخامسة: إذا أراد المخالف أن هذه البدعة، بدعة شرك القصور، هي الأكبر والأعظم، لأنه لأول مرة في التاريخ تعيش الأمة هذه الحالة من التجزئة والتعددية الدولية.
“لأول مرة في التاريخ”
كثيراً ما نسمع هذه الجملة تصف أحداثا في معرض الذم، تخرج من أفواه غير العلماء للتدليل على قبح فعل ما والتنفير منه، وبغض النظر عن الدوافع المشبوهة لدى البعض ممن يقف وراء إطلاق هذه الكلمة، إلا أننا نحسن الظن بكثير من قائليها.
وسأضرب لذلك مثلا:
حين استعانت السعودية بالقوات الدولية في حربها ضد النظام الاشتراكي في العراق، وقف من وقف من العلماء واصفاً الحدث على أنه الأول في التاريخ، ونحن نعلم والعقلاء معنا أن هذا افتراء على التاريخ، وقد حدث مثل هذا في القرن الماضي.
نعود إلى موضوعنا لنرى عجباً في واقع الأمة الإسلامية من ناحية التجزئة والتفرقة التي مرت بها، فما أن انتهت الخلافة الأموية، سنة ( 132هـ)، الموافق (750م) وبداية الخلافة العباسية وانتهاء ما يسمى بالعصر الذهبي، 193هـ/809م، حتى بدأت الدولة الإسلامية بالتجزئة، ولكي تعرف أخي القارئ مدى التجزئة في العالم الإسلامي وقتئذ، فإنني أقدم لك هذه الأرقام التي توصلت إليها من خلال حسبة بسيطة أخذت مني القليل من البحث في “أطلس تاريخ الإسلام”، للمؤلف الدكتور حسين مؤنس.
عرض الأطلس بالشرح والخرائط تاريخ الإسلام منذ ظهور الإسلام إلى آخر القرن الرابع عشر الهجري, ثم لخص ذلك في جداول تاريخية من صفحة (35-42), وضع فيه السنوات على الخط العامودي والأقاليم على الخط الأفقي. وفيما يلي بيان عدد الدويلات الإسلامية في السنوات المختارة:
ففي سنة (873م)، وجدت عشر دويلات – هذا الرقم سيتضاعف لمن أراد التدقيق – وهي:
في بلاد المغرب: 1- الأغاربة 2- الرستميون – تاهرت 3- الأدارسة – ويليلي.
في خراسان: 1- بنو طاهر (الطاهريون) 2- الصفاريون.
في مصر: الطولونيون.
في اليمن: الزيديون.
في ما وراء النهر والترك: السامانيون.
في الأندلس: الأمويون.
وثورة الترك: تركيا.
وفي عام (1180م)، وجدت خمس عشرة دولة، منبهاً على أن هذا العدد إنما هو جزء يسير من الواقع، لكن تكفينا منه الإشارة، وهي:
1- الغزنويون في أفغانستان.
2- الأمويون في الأندلس، علما أن الأندلس كانت مقسمة.
3- السلجوقيون في بغداد.
4- السلجوقيون في الروم.
5- الموحدون في المغرب.
6- الأيوبيون في مصر والشام.
7- الأتابكة في أذريبجان.
8- الأتابكة في أربيل.
9- الأتابكة في الجزيرة.
10- الأتابكة في سنجار.
11- الأتابكة في فاس.
12- الأتابكة في الموصل.
13- الحشاشون.
14- بنو حماد في المغرب.
15- الغوريون في أفغانستان والهند.
وعن عالم التفرقة في العالم الإسلامي، يحدثنا المؤرخ عبد الغني بن سعيد الأزدي في وقت مبكر بعد وفاة المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ( سنة 247هـ) تحت عنوان: “ملوك مصر بعد ضعف الخلافة العباسية”، يقول: “وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتتحت الديار المصرية والبلاد الشامية على يد عمرو بن العاص ولم تزل في النيابة أيام الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية وبني العباس إلى أن ضعفت الخلافة العباسية بعد قتل المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين. وتغلب على النواحي كل متملك لها، فانفرد أحمد بن طولون بمملكة مصر والشام، ثم دولة الإخشيد، وبعده كافور أبو المسك. ولما مات قدم جوهر القائد من قبل المعز الفاطمي من المغرب، فملكها من غير ممانع، وأسس القاهرة، وذلك في سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
وقدم المعز إلى مصر بجنوده وأمواله ومعه رمم آبائه وأجداده محمولة في توابيت وسكن بالقصرين وادعى الخلافة لنفسه دون العباسيين. وأول ظهور أمرهم في سنة سبعين ومائتين. فظهر عبد الله بن عبيد الملقب بالمهدي، وهو جد بني عبيد الحلفاء المصريين العبيديين الروافض باليمن، وأقام على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين، فحج تلك السنة واجتمع بقبيلة من كنانة فأعجبهم حاله، فصحبهم إلى مصر ورأى منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى المغرب فنما شأنه وشأن أولاده من بعده، إلى إن حضر المعز لدين الله أبو تميم معد بن اسمعي بن القائم ابن المهدي إلى مصر وهو أولهم فملكوا نيفا ومائتين من السنين، إلى أن ضعف أمرهم في أيام العاضد وسوء سياسة وزيره شاور”([1]).
وهنا تبرز مسألة وهي: عند غياب الدولة الإسلامية الأم أو الإمام الأعظم, هل يثبت للدول القائمة حكمها فتصح لهم البيعة ويكون الجهاد ماضياً معهم وبإذنهم, وتكون علاقاتهم مع الغير لها صبغة شرعية؟
(1) “المتوارين الذين اختفوا خوفاً من الحجاج”، (ج1 ص 25- 26)، ط/1، 1410هـ، دار القلم – الدار الشامية. تحقيق مشهور حسن.