(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ)

لقد أمرنا القرآن الكريم بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، أما الحكمة فمن معانيها التصرف في الأمور ضمن مقاصد التشريع الإسلامي وفقه الموازنات القائم على فقه المصالح والمفاسد. وأما الموعظة الحسنة فهي لين القول وحسنه، بعيداً عن الألفاظ المنفرة وعن الفظاظة في الأمر والنهي.
لكن ثمة حالات حساسة ومهمة، بعد استنفاذ الدعوة إليها بحسن البيان وبالحكمة والموعظة الحسنة ولين الكلام، خاصة مع وضوح الصورة والدلالة، يتطلب فيها الأمر استخدام أسلوب آخر ولغة أخرى، يسمى بـ (أسلوب الصدمة)، ولا نكون بذلك قد خرجنا عما أمرنا الله تعالى به من التأدب بآداب الأمر والنهي أبداً، بل يكون مستخدمها في مثل هذه الحالات قائماً بالحكمة في التصرف، وإن رآها البعض عكس ذلك.

فانظر إلى التعبير والتصوير القرآني في حق اليهود حين حُمّلوا التوراة فلم يحملوها، بعد كل ما جاءهم من البنيات والآيات. فقد قال الله عز وجل في حقهم: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ).

ثم انظر معي إلى هذا المشهد القرآني الآخر مستخدماً فيه (أسلوب الصدمة) كيف كان فيه الوصف لمن جاءته البيانات والعلم فانسلخ منها، فقد شبهه القرآن بـ (الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)، وما ذلك إلا لحكمة يريدها الله تعالى من هذه التعبيرات الشديدة الصدمة على النفوس كي تصحو من غفوتها، أو تعود عن هواها وكبريائها أو تراجع مسيرتها الفكرية، فتتواضع فتعرف حجمها وتدرك جهلها قبل فوات الأوان، وقبل الموت. قال الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

هذه التصويرات القرآنية الواردة في التمثيل بالحمار والكلب لصنف من الناس، لا بد من الحاجة إليها في مسيرة الدعوة إلى الله تعالى، واستخدامها في أضيق الحالات، وأكثرها أهمية وحساسية.

فها نحن هذه الأيام نرى ونقرأ ونسمع عن جرائم روسيا والصين الشيوعية ضد أهلنا في سوريا، مستخدمتين الفيتو، والدعم المالي والعسكري والأمني والجاسوسي، بل أرسلت روسيا آلاف الرجال من المخابرات ورجال الأمن، بل إن قاعدة طرطوس العسكرية فيها عشرات الآلاف من كافة الكوادر الروسية لحماية النظام السوري ولقتل أبنائنا ومحو ديننا وانتهاك أعراضنا وحرق أرضنا وممتلكاتنا وأموالنا. وفي هذه اللحظات التي اكتب فيها هذه الأسطر، لا زالت تتحرك سفينة روسية اسمها برفسور كاتسمان، أبحرت من بحر البلطيق، من ميناء سان بطرس بيرج، إلى سوريا، حمولتها (5000) طن من كافة أنواع الذخائر البرية والبحرية والجوية، منها ما هو لتعزيز قدرات النظام الإجرامي ضد الثوار طالبي الحرية، ومنها أسلحة خطرة ودقيقة جدا ضد الطائرات تحسبا لتدخل غربي عربي لإسقاط النظام السوري. كل هذا يحدث للأسف الشديد والعالم يقف شبه نائم، أو مقيد اليدين بسلاسل اللوبيات الاشتراكية الصهيونية الضاغطة على العالم عربيه وغربيه على حد سواء. وبذلك فقد ثبت للقاصي والداني وللجاهل قبل العالم، وللذكر والأنثى، وللغني والفقير، وللأمير والحقير، ثبت عجز العالمين الغربي من جهة، و(العربي والإسلامي) من جهة أخرى، أمام هذا الخطر الروسي والصيني الشيوعي، الذي هو من أقبح منتجات الصهيونية العالمية.

وإذ الأمر كذلك ورغم وضوح الصورة وبيان الآيات والأدلة وكثرتها، الدالة على عجز العالم كله وضعفه أمام القوى الروسية والصينية الشيوعية والتي هي من منتجات الصهيونية العالمية، على الرغم من ذلك كله وغيره، فلا زال البعض منا وهو يتمطى، مثله كمثل الكلب أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، أو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، لا زال يتبجح بالقول: (انتهى الخطر الروسي، ماتت الاشتراكية، انتهت الشيوعية) بئست الكلمة هي، فإن لم يكن هذا خطرا، بل من أقبح الخطر وأفحشه وأعظمه، فلم يبق للخطر من معنى أبدا ولا صورة!!!

فها هي الأحداث الجسام هذه الأيام، ومن قبلها ومنذ عقدين مضيا، تثبت لنا أن تلك المقولة الممجوجة هي أكبر كذبة معاصرة على الإطلاق، رددها دكاترة ومثقفون، ومحامون، ومهندسون، وأدباء وعلماء، ومشايخ ووعاظ، وعامة. رجالا ونساءا، شيباً وشباباً، فقراء وأغنياء، أمراء وحقراء، كلهم رددوها بكل برودة أعصاب، فقد أرَوْا أعينهم الوهم على انه حقيقة، والدجل على انه صدق، والسراب على انه ماء. بل أنكروا الشمس في رائعة النهار. فيا لها من فتنة فكرية تصويرية، أماتت لدى الغثاء منا ـ وهم كثر ـ الاحتمالات الحية، وأحيت فيهم الاحتمالات الميتة، فأنا لأمة هكذا حالها ستبصر ما هو تحت قدميها، فضلا عن أن تجلب لنفسها النفع، أو تدفع عن نفسها الضر. قال الله تعالى: (إن تنصروا الله يصركم ويثبت أقدامكم)، فأي إيمان هذا الذي لا يسعفنا أن نرى الحقيقة ونفقه الواقع. وكيف بمن جهل الواقع؟ بل كيف بأمة ظنت بنفسها الوعي السياسي، وهي جاهلة به جهلا مركباً؟

وأخيراً: لا بد من كلمة صريحة، ليست موجهة لـ أؤلئك الذين أبصروا خطر روسيا والصين الشيوعية مؤخراً، وأدركوا أنهم كانوا قد ضلوا وضُلّلوا ردحا من الزمن، فعادوا عمّا حادوا عنه. بل للذين لا زالوا في طغيانهم يعمهون، وعن الحقيقة هم غافلون. أقول لهم، أدركوا أنفسكم قبل فوات الأوان، فمن منكم لم تسعفه قدراته الفكرية ووعيه السياسي من إدراك أساليب الحرب الثورية ودجلها، أو رؤية الخطر الشرقي (الروسي) أو (الصيني الشيوعي) هذه الأيام، أو كشف التضليلات السياسية فيما نحن بصدد التحذير منه، فإنه سيكون غدا من أتباع (الأعور الدجال)، والكاهن (الأكبر). قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

والحمد لله رب العالمين. 27/5/2012، الساعة (الحادية عشرة) مساء.

Scroll to Top