في خضم الجدل حول فشل برهان غليون والمجلس الوطني، تُطرح أيضا تساؤلات كبيرة حول دور الإخوان المسلمين في هذا الفشل، لأنهم تقريبا هم الجسم الرئيس لهذا المجلس، مع أنهم وضعوا رأسا علمانيا-يساريا في الواجهة لتسهيل قبول الغرب للمجلس، لم يكن من المشروع (إثارة الخلافات) بين المعارضة السورية بمثل هذه الانتقادات، لأنه يجب التركيز على إسقاط النظام أولا، ولكن تبين أن هناك أطرافا من المعارضة لا يسقط النظام إلا بإسقاطها، لأنهم لا يريدون حقا إسقاط النظام، بل عمل تسوية معه على حساب دماء الشهداء، وقد كانت هيئة التنسيق اللاوطنية أولهم، ثم تبيّن أن آخرين كثر هم على نفس الشاكلة، منم برهان غليون وكثير من قيادات المجلس الوطني وبعضهم من الإسلاميين للأسف الشديد.
إن الأيديولوجيا الشيوعية الاشتراكية البائدة هي ما يجمع بين هذا النظام المجرم وهذه المعارضة الخائبة بغالبية أطيافها اليسارية، أما الإخوان المسلمين فهم متعاملون بشكل ما مع إيران على مستوى القيادات دون القاعدة الشبابية، وهم أيضا حلفاء قديمون لليساريين والاشتراكيين، كما أن الأفكار السياسية اليسارية تخترقهم منذ فترة طويلة.
فمثلا إخوان مصر والأردن أيدوا بشار البعثي الاشتراكي (قبل الثورة) باعتباره رمزا للمقاومة!!، دون كثير من مراعاة مشاعر الإخوان المسلمين السوريين بسبب مجازر حماة، وإخوان سوريا أيدوا صدام البعثي الاشتراكي باعتباره أيضا رمزا للمقاومة!!، رغم أن صدام قضى على الإخوان العراقيين بطريقة دموية!، كما لا يُستبعد امكانية اتفاق بعض قيادات الإخوان المسلمين السوريين حتى مع بشار لو أنه هو يقبل بذلك، وهلم جرا من هذه التناقضات المبكية ، ولا وحول ولا قوة إلا بالله.
إن صفات المستبدين كثيرة، منها التمسك بالسلطة والانفراد بالرأي (الأمر والنهي)، وأشد الدول الاستبداية تطبيقاً لهذا المبدأ، كانت الدول الثورية الشمولية الاشتراكية، تليها الدول النازية والفاشية، ولكن… هنالك نوع آخر أخطر منه، وهو الاستبداد الممارس باسم الله، فهو يدغدغ عواطفنا بالشعارات الرنانة الموافقة في أصلها ـ لا في كيفها ـ لشريعة الله، فها هي إيران تلك الدولة الشيعية لا زالت ترفع رايات وشعارات طالما تاقت أنفسنا الى مثلها، وهي لا زالت من أشد الدول استبدادا وظلما وإقصاءا لنا، وهذا يعني بأن كل من خُدع بها أو بشعارات مقاومة سوريا الاشتراكية، ربما يكون قد صار (مشروع استبدادي) مستقبلي، ينفرد بالرأي وبالسلطة متى اصطادها.
في أجواء الفرح السابقة بفوز حزب النهضة في تونس والتفاؤل بفوز الإسلاميين في الربيع العربي، كنت أود أن أكتب موضوعا بعنوان مثل (الشغلة مش بس حيللا بدنا إسلاميين !!) لأوضح الفرق بين الإسلاميين الذين تحالفوا مع الديكتاتوريين، أو من لديهم نظرة ديكتاتورية خفية، وبين الإسلاميين المعتدلين من ناحية شرعية ومن ناحية حزبية وسياسية أيضا، مثل لؤي الزعبي على سبيل المثال، وأيضا من أجل التأكيد على أن أي حزب وطني نظيف وعادل هو أفضل من أي حزب إسلامي ديكتاتوري ظالم، وذلك بناء على قول العلماء بأن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويسقط الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة.
أرسلت فكرة الموضوع لأحد الأصدقاء الوطنيين من نشطاء الثورة السورية فجاءني هذا الجواب:
“هذا موضوع هام يجب الخوض فيه، ومن وجهة نظري فأنا لا أحب أن يقود الحكم في سورية المستقبل أي حزب يحمل صفة قومية أو دينية، لأن الاسم وحده يشكّل بحد ذاته تحيّزاً لفئة على حساب أخرى مهما حاول أصحاب الحزب إظهاره على أنه ديمقراطي وما إلى ذلك، وأنا بالمجمل لا أحب الأحزاب ولا التحزب ولم أنتمي في أي يوم لأي منها، أنا انتمائي لسورية وأهلها، وأتمنى أن تكون سورية المستقبل عبارة عن ائتلاف أحزاب وطنية ووطنية فقط، وبمسميات وطنية فقط، وأن يجمعها حزب قائد للدولة هو الشعب، والشعب فقط.”
فقلت هنا تحديدا تقع أول مشكلة ما بين الإصرار فقط على الإسلاميين ورفض الوطنيين عند البعض، والإصرار على الوطنيين ورفض الإسلاميين عند البعض الآخر، وإن الحل ليس فقط في نموذج ثنائية الإسلاميين والعلمانيين اليساريين في التجربة التونسية، لأن كل من هؤلاء الإسلاميين والعلمانيين هم يدورون في فلك إيران وروسيا والصين، وقد نجحوا لأن الثورة في تونس لم تمرّ في مرحلة غربلة المعارضة كما حصل في الثورة السورية.
في سورية ما بعد الاستقلال كان أول رئيس لها هو المرحوم الشيخ تاج الدين الحسني، وهو إسلامي غير حزبي من أبناء أحد مشايخ دمشق، وبعد أن تم اغتياله رحمه الله، جاء الرئيس الوطني شكري القوتلي والرئيس هاشم الأتاسي، لم يكن في ذاك الوقت لدى الوطنيين أي مشكلة بالإسلاميين ولا لدى الإسلاميين مشكلة بالوطنيين ولم نكن نعرف مثل هذا الاستقطاب، تماما مثل حالة لؤي الزعبي الذي استعد لانتخاب رئيس مسيحي إذا كان وطنيا عادلا.
إذا ما هي المشكلة الثانية؟ في الطرف الآخر من دعاة الوطنية نجد مثلا هيئة التنسيق الوطني الزائفة، وهنا أود القول بأنه يوجد إسلاميين مخلصين يطالبون بكل صراحة بكل مطالب الشعب السوري من حماية دولية وغيرها، وآخرين زائفين أو ديكتاتوريين، كما يوجد وطنيين صادقين أيضا يطالبون بكل صراحة بكل مطالب الشعب السوري من حماية دولية وغيرها، وهناك وطنيين زائفين أو ديكتاتوريين مثل هيئة التنسيق وبعض أعضاء المجلس الوطني من برهان غليون والزمرة المتآمرة معه من يساريين وبعض الإسلاميين مرتبطين بأجندة إيرانية أو تركية.
كيف نسنتطيع معرفة الفرق بين المخلص والزائف؟ هذا هو التحدي.
لقد كان ذلك صعبا جدا قبل هذه الثورة، ولكن الثورة نفسها الآن هي أكبر مساعد على ذلك، فلدينا الآن معيار تبنّي مطالب الشعب، وبعد هذا الغربال أعتقد أننا سنكون أمام ثنائية جديدة من الإسلاميين الصادقين الأحرار والوطنيين المخلصين الأحرار، وغالبهم من قيادات وأفراد الثوار على الأرض، وليس من المعارضة المهترئة، وهي أشبه بالثنائية التي كانت في سوريا ما بعد الاستقلال، وهي لا تدور في فلك إيران ولا في فلك روسيا ولا تنبطح أمام الغرب، بل تقيم علاقات ندية قائمة على مصالح الشعب السوري، وتتميز هذه الثنائية عن تلك القديمة بأنها ذات مناعة كبيرة ضد السقوط بسبب مرارة التجربة التاريخية، وأيضا بسبب قوة المراقبة الشعبية.