إن من يستقرى التاريخ السياسي العالمي سيجد أن قدرة الشعوب على التغيير السياسي وإسقاط أنظمة الاستبداد المتقادمة ترتبط بعاملين اثنين :
العامل الموضوعي / المتعين بوصول الاجتماع السياسي في البلد حد الانسداد التام وانقطاع التواصل ، والجدل النازل أو الصاعد بين النظام السياسي والقاعدة الشعبية .
العامل الذاتي / المتمثل بإدراك وشعور أفراد الشعب أنهم مصدر القوة والتأثير ، من حيث قدرتهم على إبقاء النظام السياسي أو إسقاطه مجسداً بشعار (الشعب يريد …. الشعب قرر ….).
ومن هنا كان الانسداد السياسي للحالة الوطنية هو ما دفع الشعب السوري للثورة والعمل على كسر المسار السياسي برمته ، وضرورة إيجاد مسار سياسي جديد يحقق الانفراج في الحالة الوطنية ، ويفتح طريق المستقبل أمام تقدم الأوطان ، من خلال إسقاط النظام الاستبدادي السوري ، وبناء نظام سياسي ديمقراطي تعددي ، تمهيداً لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية المدنية ( لا دينية ولا عسكرية ولا بروليتارية).
ومن الطبيعي أن يكون لكل ثورة شعبية خصائصها المميزة ، ممثلة بفئاتها وأدواتها وعمق تغييرها وغاياتها وتوقيتها وطول فترتها الزمنية ، والتي تختلف من تجربة ثورية لأخرى ، ومن مرحلة لأخرى .
وعليه نرى أن الخصائص الأساسية التي تميز الثورة الديمقراطية السورية التي فجرها شعبنا العظيم في 15/3/2011 هي :
-
النفس الطويل للثورة من حيث طول مدتها الزمنية التي قاربت العشرة أشهر ، والتضحيات الجسام التي قدمها الشعب السوري الثائر، وفشل النظام في إخمادها .
-
استمرار مدنية وسلمية الثورة ، ورفض العسكرة ، والاحتراب الأهلي والإصرار الشعبي على استخدام القوة الناعمة المتوجة بالعصيان المدني السلمي ،رغم استخدام النظام لفائض القوة ضد أفراد الشعب الأعزل .
-
اعتماد الشعب على قواه الوطنية – الذاتية – في الثورة باعتبارها قوام الثورة وأساسها ، وجميع القوى العربية والإقليمية والدولية هي عوامل تابعة وثانوية بل ومترددة خوفاً على مصالحها أو مصالح حلفائها في المنطقة.
-
عدم تمكن أي طرف داخلي أو خارجي من اختراق الثورة ، وركوب موجتها وتحريفها عن مسارها المدني – السلمي – حتى الآن .
-
تطور أهداف الثورة من المطالبة بإصلاح النظام كمرحلة أولى ، إلى المطالبة بفترة انتقالية على قاعدة رحيله كمرحلة ثانية ، إلى المطالبة بإسقاطه من خلال تبني استراتيجية العصيان المدني كمرحلة ثالثة .
-
الشباب هم المحرك الرئيسي للثورة ، والمكونين من الطلاب ، وخريجي الجامعات ، والعاطلين عن العمل منهم .
-
توظيف الشباب لوسائل الاتصالات الحديثة ، واستعمال مواقع التواصل الاجتماعي (التويتر – الفيسبوك) بروح إبداعية عالية ، من أجل الحوار والتعبئة الشعبية ، وحشد المظاهرات ، وتحديد أماكن انطلاقها ، وتحديد شعاراتها .
-
الثوريون الجُدُد من الشباب الاحتجاجي لا يعيرون أدني اهتمام للأيديولوجيا (والتي هي مجموعة الأفكار والنظريات والقيم الكلية التي يحملها كل تيار أيديولوجي ولا يتخلى عن أي جزء منها – كاملة وغير منقوصة – وكأنها نصوصاً منزلة تؤخذ كلها أو ترفض كلها )حيث أن شعارات الشباب تطغى عليها الصفة الملموسة و البراغماتية – العملية – فهم قوميون وإسلاميون ويساريون ، لكنهم لا ينادون بالأيديولوجيات القومية والإسلامية واليسارية في المرحلة الحالية على الأقل ، وعند محاولة البعض الانتصار لتيار أيديولوجي أو فصيل سياسي ضد أيديولوجية أو فصيل آخر ، لا يمكننا اعتبار ذلك إلا عملاً تخريبياً ولؤماً سياسياً حاقداً يتوجب التحجيم والإدانة ، حيث أننا نعيش مرحلة ثورية بكل معنى الكلمة ، ونعتبر الحقد مُوجهاً سيئاً للسياسة ، وجميع من يُثيرون المعارك الأيديولوجية في المرحلة الحالية هم من يشعرون بصغر حجمهم أمام المد الثوري الشعبي الجارف ، ويريدون إثبات وجودهم ، وتذكير الآخرين بماضيهم النضالي غير الديمقراطي والمنسي، حيث أن توقف عقلهم عن فهم ما يجري خلال هذه المرحلة يدفعهم إلى استذكار الماضي وأحقاده ، (عندما يتوقف العقل تعمل الذاكرة).
-
إن ثورة الشعب السوري هي ثورة غير إيديولوجية ، حيث لا يستطيع أي تيار فكري أيديولوجي الادعاء أنه صانع الثورة ومفجرها ، كونها أتت نتيجة لمساهمة الفاعلين اللا منتمين ( بداية ) ، والإسلاميين واليساريين والقوميين والليبراليين ( لاحقاً ).
-
الثورة لم تفجرها البرامج الحزبية المتصحرة وأيديولوجياتها الفكرية الهامدة والمطالب الخارجية وآلتها الدعائية الكاذبة ، وإنما فجرتها المطالب الشعبية الداخلية ، التي هي وليدة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العيانية والملموسة التي يعيشها الشعب ، وبناءً عليه كان انفجار الثورة السورية خياراً عملياً وليس خياراً أيديولوجياً مختزناً في صحائف الكهان.
-
انبثاق طريق الشعب باعتباره الطريق الثالث ، وسقوط الثنائية الفاسدة للنظام السوري ، المدعي أن سقوطه لا يعني سوى استيلاء الإسلاميين على الحكم !!! وتركيز خطابه الإعلامي المتهافت على الفزّاعة الإسلامية !!! (إما النظام القائم !!…وإما الإسلام السياسي !! )، وكأن البلد مقتصراً عليهما فقط ولا توجد فيه أديان وأعراق وطوائف ومذاهب وتيارات وقوى سياسية متعددة ومتباينة في طوله وعرضه.
-
إن دور الإسلاميين في الثورة لم يكن دوراً وحيداً أو محورياً (كما يدعي النظام) بل كان دوراً من ضمن الأدوار اللاحقة ، باعتباره أحد أضلاع المربع الوطني (اليساري – القومي – الإسلامي – الليبرالي ) ، حيث أن الإسلاميين أنفسهم يقرون بذلك ، سواء فيما يتعلق بالمرحلة الثورية الحالية ، أو فيما يتعلق بالمراحل الديمقراطية السابقة التي عاشتها سورية ، خلال فترة الأربعينات والخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي ، فقد كانوا تياراً من ضمن التيارات ، وقوة من بين القوى ولوناً من بين الألوان .
-
إن ثورة الشعب السوري كانت المفاجأة التي أربكت المعارضات السياسية التقليدية داخل القطر وخارجه ، حيث أن الجماهير المنتفضة قد سبقت قادة هذه المعارضات حدساً وحراكاً ومطلباً ونفساً وتضحية ، وهي القيادات التي ركضت وراء المحتجين لمعرفة ما يجري وتفسير معناه ، قبل أن تلتحق بالشارع الاحتجاجي ، بل إن الجماهير الغاضبة هي من دفعت بقيادات المعارضة إلى واجهة الأحداث ووسائل الإعلام ، وهم العاجزون حتى الآن عن بناء كتلة وطنية ديمقراطية كبرى بين جميع التيارات والقوى والمكونات المجتمعية # ، أو الجرأة في إبداء أية ملاحظات حول فعاليات الشارع الاحتجاجي.
-
ما زال أنصار الثورة الوطنية الديمقراطية يناشدون حماة الديار ، أن انضموا إلينا لنعمل سويةً على إسقاط النظام الفاجر ، وبناء نظام سياسي ديمقراطي يضمن للمواطن حريته وكرامته .
-
بقاء المؤسسة الدينية الرسمية تحت هيمنة السلطة ، وجهازاً من أجهزتها الأيديولوجية ، والتي تستثمر الدين ممثلاً بوعاظ السلاطين لتبرير وجودها وقمعها في الوقت الذي تدعي فيه ضرورة الفصل ما بين الدين والسياسة!!
-
يبدو أن الثورة السورية ما زالت حتى الآن ثورة الطلاب والمهمشين والفقراء من العمال والفلاحين والعاطلين عن العمل وذوي الدخل المحدود ، والحرفيين وأصحاب المتاجر الصغيرة ، والفئات الدنيا من الطبقة الوسطى من مهندسين وأساتذة ومحاميين وأطباء ، وما زالت الثورة تكسب المزيد من الفئات الاجتماعية وتتوسع أفقياً وعمودياً ، مع تردد البرجوازية السورية التقليدية في الانضمام للثورة ، وتحديداً في كل من دمشق وحلب ، واستمرار تحالف البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية والكمبرادورية مع النظام (تزاوج السلطة والثروة)
-
ضعف مشاركة الأقليات الدينية والعرقية والطائفية بكتلها الأساسية في خوض المعركة الديمقراطية مع النظام القائم ، رغم أن الاستبداد يقمع جميع مكونات المجتمع ويهمشهم ، حيث أن النظام ما زال يدعي انه نظاماً علمانياً !!! وحامي الأقليات !!!# ، وهذا ما يتطلب من المعارضات السورية التي تتصدر المشهد السياسي الحالي دراسة أسباب ضعف المشاركة ، ووضع البرامج المحددة الكفيلة بدفع المشاركة إلى حدها الأقصى ، ونعتقد أن مرد ضعف المشاركة يعود إلى تأخر المعارضات في إنجاز كتلة وطنية كبرى على قاعدة الديمقراطية من جهة ، وإخافة النظام للأقليات بالفزاعة الإسلامية من جهة أخرى ، وهو ما يتطلب من الإسلاميين العمل على تبديد هذه المخاوف وإظهار قيمة التسامح الوطني بين المكونات المجتمعية المتعددة للماضي والحاضر والمستقبل كشرطً لابد منه للعملية الديمقراطية.
-
استمرار التردد والضعف في المواقف العربية والإقليمية والدولية تجاه ما يجري في سورية من أعمال قتل وقمع وتدمير ، ويبدو أن المطالبة بتحسين سلوك النظام السوري مازالت تفوق المطالبة بإسقاطه حتى الآن !!!
-
وتبقى الثورة العارمة للريف من أهم خصائص الثورة السورية ، وهي المفاجأة الكبرى للنظام ، الذي دأب على إثارة الفرقة بين الريف والمدينة ، والمدعي الدفاع عن حقوق الفلاحين ومكتسباتهم السابقة ، ولكن الواقع أثبت أن معاناة أهل الأرياف لا تقل عن معاناة أهل المدن بل قد تكون أكثر شدة ، ولعل ثورة الريف السوري البطل تحتاج الكثير من الدراسة والبحث لمعرفة أسباب انتصار الفلاحين للديمقراطية والنظر للأفق البعيد ، عوضاً عن النظر تحت أقدامهم والالتفات إلى المطالب الفئوية الضيقة ، وهي الفرادة التي ستكتب للفلاح السوري بأحرف من نور .
وتبقى إرادة الشعب أقوى من تشاؤم العقل