أتفهم أن يقدم الجاهل على جهالة، لكن أن يُقدم من يتعالم على جهالة نكراء فتلك طامة كبرى، لم استسغ أبداً فراس السواح فيما سبق، وكنت منذ مغامرة عقله البائس الأولى أدرك أن الرجل يصعد على أكتاف اللامبالاة، والنقص الحاد في الاهتمام بالحقل الذي تصدى له، مع فرصة استثنائية قدمت له ولمن على شاكلته بسبب زمن أرعن في ظل نظام أجرامي شوه كل شيء حتى الثقافة والفن، لكن لم أتصور يوماً أن يكون الضالع في تاريخ الأديان ونشوئها، وفلسفة العقائد وأبعادها الميثولوجية، ذا بنية أيديولوجية عمياء، فكل علمه وأبحاثه لم تجعله يرتقي فوق مستوى أي أمي من بيئته.
منذ مطلع الحركة الاحتجاجية، وهذا السواح تحول إلى مجاهد طائفي، ترك تاريخ الأديان ودراسات الأساطير ليتفرغ للشحن الطائفي، وبناء الأوهام والمخاوف عبر تضخيم مشهد هامشي، أو استثمار اتهامات جزافية رعناء، هذا السواح الذي ساح كثيراً لا يستطيع أن يخلع نظارته الطائفية المغبرة في قراءة ما يجري، بل ويتهم من لا يخادعون أنفسهم بالعور وهو أعمى.
في مقال بائس كتبه مؤخراً، لم أجد فيه أي فائدة تذكر سوى أن السواح لا يختلف في فكره عن أي شبيح هائج في شوارع حمص ودرعا وحماة وغيرها، يبدأ بتمجيد مشاهد من ثورة الشباب الأميركي مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ومع أن المثال سخيف ولا يصح بحال من الأحوال، إلا أنه يجعله دعامة للإساءة إلى انتفاضة الشعب السوري ضد عائلة الطغاة، فيتهمها بأنها مخترقة، ويحشد لقوله ستة اختراقات يزعمها، لكي يؤكد أن حركة الشارع ولدت مخترقة. في تجاهل متعمد حتى للحظة ولادة هذه الاحتجاجات التي لا يختلف عليها اثنان حتى في سدة الحكم الفاسد.
الحجة الأولى هي تلك التهمة الجاهزة التي حملها نفر من (مثقفي) النظام، وهي المرجعية الأصولية للمحتجين بسبب خروجهم من الجوامع، فهم بنظر السواح وأشياعه يخرجون من الجوامع لأنهم أصوليون، بينما يشير واعظ السلطان البوطي إلى أنهم لا يمتون إلى أي اجتهاد ديني بصلة، إنما هم فقط ينتعلون الجوامع وجباههم لا تعرف السجود، وكلا القولين على تطرفهما وتناقضهما يشيران إلى علة مشتركة في شخص قائليهما، وهو الافتراء كيفما اتفق على المنادين بالحرية، لتشويه صورتهم.
تكرر هذا الاتهام، حول الجوامع مبتدءاً للخروج في المظاهرات، ومع أن حتى المعتوهين والعميان يعرفون تماماً أن الفسحة الوحيدة لاجتماع الناس بدون حظر هي الجوامع، لكن ولنفرض جدلاً أنهم يتقصدون الخروج من الجامع، أليس المهم في الأمر ما يدعوا إليه هؤلاء، وطالما أنهم يرددون شعارات الحرية والكرامة والوحدة الوطنية، ألا يعني أن هؤلاء إنما يعيدون إلى الجامع أو يعطونه دوراً قيادياً وتنموياً وإنسانياً بدلاً من أن يكون مؤسسة للتدجين السياسي والدعاء لولي الأمر وحاشيته، ألا يخفي هذا الاتهام بعداً طائفياً يتمثل في كراهية الجامع لأسباب عقدية وليس لأسباب اجتماعية، من أين يجب أن تخرج هذه المظاهرات حتى يرضى السيد السواح والشيخ البوطي، حتى ملاعب كرة القدم منعت فيها المباريات، بل حتى المدارس الابتدائية حوصرت من الداخل والخارج، هل عليهم أن يجتمعوا للتظاهر في المواخير والبارات لينالوا ثقة السواح؟!
يقرن السواح الجامع بالعنف، مع أنه يعلم تماماً أن المظاهرات سلمية بالمطلق، لا ننكر وجود حالات فردية انتقامية من بعض الأهالي، فانتقموا في لحظة فقد جليلة، ممن بادروا بالقتل من الشبيحة والأمن، وفي الآونة الأخيرة تجري اشتباكات بين جنود يرفضون إطلاق النار على العزل، وعناصر من الشبيحة والأمن مكلفين بقتل كل من يرفض الأوامر العسكرية، ومازال يتناقل هذا السواح مقطعاً يتيماً من بين ملايين المقاطع التي تدحضه، رفع فيها أحدهم شعاراً طائفياً، مع أن مصداقية هذا المقطع أصلاً مشكوك فيها، لأن كل الشعارات التي كانت في نفس المكان والزمان كانت تدعو للوحدة الوطنية وإلى وحدة الشعب السوري بأطيافه المتنوعة دون إقصاء أو إلغاء.
الاختراق الثاني الذي يتحدث عنه السواح يدل دلالة واضحة أن الرجل قد توقف عن فهم ما يجري منذ الشهر الأول، فهو يعيد الحراك إلى أهداف مطلبية بسيطة، متغافلاً عن الدم الذي يسفك وعن المغامرة الخطيرة التي تكتنف كل خروج، وهذا الادعاء الذي نقله بداية الاحتجاجات ممثلان سخيفان ظنا أنهما قادران على إقناع المتظاهرين بالتخلي عن مطلبهم الأهم ألا وهو الحرية، من أجل مهرجين هما من بين من انحط بمستوى الفن والأدب في سورية، ويردف السواح اتهامه هذا بالقول أن المتظاهرين حملوا السلاح من أجل أهداف مطلبية سخيفة، مجرد طرح هذا الرأي يدل على سذاجة السواح وحماقته، يبدو لي أن مثقفي السلطة دجنوا تماماً وأصبحوا مثلها لا يخجلون من الكذب ومن انكشاف الكذب بآن واحد. لا زال السواح يرى أن الجماهير المحتجة سهلة الانقياد لجهات مشبوهة لتحمل السلاح، مع أن شهراً سابعاً يمضي والناس تقتل بالعشرات يومياً وإلى الآن ينادون بالسلمية ويحملون الورود وغصن الزيتون.
الاختراق الثالث الذي يتحدث عنه السواح في مقاله الرخيص، يدل على إحساسه بعظم الجرائم المرتكبة بحق الناس، لكنه لا يرى الجرم الواقع والذي تم تنفيذه، إنما يرى ما يروج له من احتمالات الانتقام، لا يرى الجريمة الحاصلة بكل تفاصيلها الوحشية، إنما يرى الانتقام الذي يتخيله دون أي دليل على وقوعه أو احتمال حدوثه. ولذلك فإنه يحذر من الحلقة المفرغة، من أن يتناوب الانتقام النظام (مضطراً) والمحتجون (عمالة وتبعية مشبوهة) الانتقام، لذلك (يرى) على المحتجين أن يبلعوا ذلهم وموتهم وأن يسكتوا ويقبعوا في بيوتهم… ربما لتقوم السلطة بتصفيتهم بهدوء. فغليان الشارع عند السواح هو محض ثأر مما وقع فيما سبق… ولا يوجد في جنة النظام سبب لكي يتظاهر الناس!
الاختراق الرابع الذي يراه هذا السواح، بأن المحتجون هم مراهقون جهلة، لم ينالوا حتى قسطا يسيراً من التعليم، ولم تتيسر لهم ظروف العمل، فنزلوا إلى الشارع للتنفيس عن غضبهم، (وعن طاقات المراهقة المتفجرة)، وربما يستشهد شفهياً بالهجوم الذي نفذه الطفل حمزة الخطيب على مساكن صيدا لسبي نساء الضباط. ومن الواضح جداً الجهل المدقع للسواح، الذي سور نفسه بهواجس طائفية لا تتيح له حتى مجرد رؤية النخبة الشابة التي تتجاوزه وعياً وعلماً وإخلاصاً للوطن والمواطن.
والاختراق الخامس بنظره يتمثل بالمعارضة الخارجية التي لا يعترف بها، والذين هم عبارة عن أناس نشؤوا بعيداً عن سورية وباتوا بخدمة أجندات عثمانية وماسونية وصهيونية، وبرعاية أميركية. وذلك لطلب الحماية من المجتمع الدولي وتدمير الجيش السوري نيابة عن إسرائيل! ويتغافل بكل وقاحة عن التصريحات والوقائع الدموية والسياسات الوحشية التي أكدت مراراً أن هذا الجيش ليس جيش سورية إنما جيش النظام، وإحدى أهم مهامه هي حماية إسرائيل كما أقر بذلك النظام نفسه.
هؤلاء الذين هجروا من بلادهم بسبب نظام قمعي، فعاشوا في المنافي يحلمون بيوم تعود فيه سورية حرة هم موضع اتهام السواح، بينما النظام القاتل والطائفي هو ما يحرص عليه، أي دور ثقافي يؤمل من رجل يساند الجريمة ويسوغ لها على الرغم من الدم الذي يراق كل وقت.
ولأن السيد السواح لا يتابع سوى قنوات النظام وصحفه، فهو إلى اليوم لا يعرف الآلية التي يتم بها تسمية الجمع، ربما في هذه له حق، فهو لم يعتد أي نهج ديمقراطي في ظل هذه السلطة، لذلك لا يستطيع أن يتفهم الأسلوب الديمقراطي الذي انتهجه الناشطون من أجل تسمية تأخذ عدداً أوفر من الأصوات. ولكي يؤكد السواح على شكوكه العظيمة، يتساءل عمن سمى إحدى الجمع باسم جمعة الحماية الدولية!
ثم يدعو هؤلاء الذين (لن يعرفوا) إلى حلول واقعية بالتأكيد أولها الهتاف لبشار وجلاوزته والاستسلام لقمعه وحكمه الجائر.
مللنا كلمة يا حيف… وأنا شخصياً لا أجود بها على أفاق مثل فراس السواح، لأني لم أجد له جهداً يقدر، أو يحترم، وكل ما كتبه هو عبارة عن مغامرات بلهاء أو دراسات غارقة في ليبيدو التفاسير، أو تنطع برائحة طائفية لدور فلسفي واهن.
ربما يا سيد فراس كانت هذه الانتفاضة فرصة عظيمة لك لتكتسب بعض الأهمية بمناصرة الحقوق التي يدعو إليها شباب الوطن الذين بدون شك يؤكدون كل لحظة أنهم أوعى منك وأشد بصراً وبصيرة، ولكن أضعت الفرصة برعونة، إنه شأن الصغار يبقون صغاراً…