الغلو في المؤامرة «خدمة لها».. ونفيها «جزء منها» – زين الدين الركابي
كان من المقدر والمقرر أن يكون هذا المقال بداية لدراسة تنتظمها مقالات كثيرة عن «الأنظمة السياسية» في المنطقة والعالم، وعن ضرورة «الاجتهاد السياسي» في هذا المجال الحيوي، بيد أننا أرجأنا ذلك إلى الأسبوع المقبل، بإذن الله تعالى. والسبب أن هناك من القراء من فهم من مقال الأسبوع الماضي «مخطط تفتيت المجتمعات العربية: تطبيق في مصر»، أن كاتب المقال يقول بنظرية المؤامرة بـ«إطلاق».
ولما كان منهج «التعميم» والإطلاق ليس منهجنا؛ لا في هذه القضية ولا في غيرها، ولما كانت قضية المؤامرة تتطلب تجلية وتأصيلا وضبطا، فقد أفردنا هذا المقال لهذه التجلية والتأصيل والضبط؛ حرصا على تكوين رأي عام مستنير ومعتدل حولها، ولا سيما في هذه الحقبة التي يتعرض فيها الرأي العام العربي الإسلامي لتشويش واسع النطاق؛ متعمد أو جهول، يصرفه عن فهم الأمور بطريقة صحيحة.
في تحقيق مفردة أو مصطلح «المؤامرة» يمكن القول: إنها كلمة عربية مشتقة من فعل «أَمَرَ»، وهي تعني في هذا الاشتقاق «التآمر» بكذا وكذا، أي أن أناسا من الناس قد اجتمعوا فـ«تآمروا» بهذا الشيء أو ذاك، بمعنى أمر بعضهم بعضا بأن يفعلوا فعلا ما.. وقد يكون التآمر بالخير والمعروف، كما جاء في التنزيل: «وأتمروا بينكم بمعروف».. وقد يكون التآمر بالشر والعدوان والاغتيال، كما جاء في التنزيل أيضا: «قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك».. ومن مفاهيم كلمة «مؤامرة»: التدبير في خفاء.. وهنا ينتقل السياق إلى المجال السياسي.. والسؤال المركزي – ها هنا – هو: هل في السياسة «جزء خفي»؟ لا ينكر الخفاء والسرية في السياسة امرؤ يحسن التفكير السياسي، في التاريخ والواقع كليهما. وقبل أن يتعجل متعجل بالفتيا السياسية في هذه القضية، عليه أن يقرأ – بانتباه وعقلانية وأمانة – الكتب والمذكرات والوثائق السياسية التي تحمل معلومات ووقائع وأسرارا لم يُعلن عنها إلا بعد مرور 30 أو 50 عاما عليها. لقد كانت هذه المعلومات والأسرار «سياسة خفية» طوال المدة التي ظلت فيها في طي الكتمان.. ومما يؤكد ذلك أن خفاءها أو إخفاءها تم بقرار سياسي صارم ملزم للسياسيين جميعا، وللإعلاميين كافة، ولأجهزة الأمن كلها.. والحصيلة: أن هناك «سياسة خفية»، وأن هناك قرارا بـ«إخفائها».. وإذا توكد أن في السياسة (تدبيرا خفيا) فهل كل ما يدبر في الخفاء: خير وسلام وحب ووئام؟!.. قد يكون التدبير في الخفاء في مصلحة المدبرين، بمقياسهم المصلحي، (كما في اتفاقات يالطا وسايكس بيكو وما في حكمهما)، بيد أن هذا التدبير تواطؤ على الشر والأذى والضر بالنسبة للمستهدفين أو ضحايا هذا التدبير من الأمم والدول.. فكيف يتعجل متعجل بنفي المؤامرة بإطلاق والحالة هذه؟ قد يكون النفي رد فعل للغلو في القول بالمؤامرة بإطلاق، لكن الغلو لا يُدفع ولا يعالج بغلو مثله؛ مساو له في القدر، مضاد له في الاتجاه.. ثم إن نفي المؤامرة بإطلاق ينطوي على أسطورة – كتلك التي ينفيها – ينطوي عن أسطورة أو نظرية «المصادفة العشوائية في تفسير الأحداث والوقائع»؛ هكذا: السياسة خبط عشواء، لا تخطيط فيها ولا كيد، بل هي أسطورة «تجبر» الناس على أن يكونوا «سطحيين» في فهم ما وراء الأحداث والوقائع.
فأيما إنسان ضبط متلبسا بجرم «الفهم العميق» فهو من ثم من أصحاب نظرية المؤامرة، ومن هنا يضطر أقوام تحت مطارق هذا الإرهاب السياسي إلى أن يكونوا سطحيين بجدارة وفخر!! وقد تجد لهذا المنزع أمثالا في الذين يبدأون كلامهم بقولهم: إنني لست من الذين يؤيدون نظرية المؤامرة! وإذا تطلب السياق مزيدا من الوقائع والدلائل التي تحسم الجدل في هذه النقطة، فهذه هي بعض الوقائع:
أ) اعترف زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس كارتر، بأن الولايات المتحدة هي «التي خططت لاستدراج الاتحاد السوفياتي (سابقا) إلى المستنقع الأفغاني»، وهو استدراج قصد به إنهاك الاتحاد السوفياتي وهد قواه من جهة، وتشويه سمعته على نطاق عالمي من جهة أخرى، (وقد يكون مفيدا أن نعلم أن الاحتلال السوفياتي لأفغانستان حصل بعيد قيام ثورة الخميني في إيران).. فبمَ يسمى ويفسر اعتراف بريجنسكي ذاك؟ أيسمى شعرا رومانسيا في ناد دولي للعشاق؟!
ب) مما يؤيد الواقعة الآنفة: أن جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركية الأسبق، قد قال غداة تفكك الدولة الشيوعية الأم والأولى: «نحن الذين فعلنا ذلك».
ج) في أواخر السبعينات من القرن الماضي: أجري تحقيق موسع، قامت له لجنة ممتازة من مجلس الشيوخ الأميركي، للتحقيق في الاغتيالات السياسية، استمر عامين. وقد خلصت اللجنة إلى «أن الرئيس الأميركي جون كيندي اغتيل على الأرجح تنفيذا لمؤامرة»، وقد وافق على هذه النتيجة 75 في المائة من الخبراء، و80 في المائة من الرأي العام الأميركي.
د) مقال الأسبوع الماضي استند – ضمن ما استند – إلى تصريح علني لرئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، عاموس يادلين، إذ قال: «أما في مصر، الملعب الأكبر لنشاطنا، فقد نجحنا في تصعيد التوتر الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متصارعة دائما».. وهذا دليل على أن «المؤامرة» أصبحت تخطيطا وتنفيذا علنيا على المسرح المكشوف، بناء على ما تقدم من وقائع وحقائق وقرائن، يتبين، بوضوح، أن نفي المؤامرة – بإطلاق – لا برهان عقلاني عليه، وهو نفي ينطوي على خطأين مركبين مدمرين؛ خطأ التفكير الخاطئ في القضية (التعميم بلا دليل).. وخطأ «تنويم» الأمة حتى لا تتنبه إلى مخاطر الكيد الخارجي الذي لا يريد نهضة علمية ولا اقتصادية، ولا تماسكا وطنيا، ولا تقاربا قوميا، ولا دورا عالميا فاعلا.
وننتقل من «التهوين» من شأن المؤامرة إلى «التهويل» فيها.. فهناك من الناس من يفسر كل شيء، وكل حدث بأنه «مؤامرة».. وهذا تفكير مدمر – كذلك – بل نقول: إنه تفكير ملتاث بالشرك بالله، عز وجل، من حيث إنه يمنح القوى البشرية المتآمرة صفة من صفات الله تعالى، بمعنى أنه يصور تلك القوى بأنها «الفعال لما يريد».. وهذا وصف لا يطلق إلا على من بيده الأمر كله، تقدس في علاه، ومن الناحية السياسية و«العلمية»، فإن الغلو في المؤامرة يخدم العدو الشانئ المتآمر خدمة مجانية عظمى، ذلك أن هذا الغلو يشل إرادة الأمة عن الفعل والواجب المطلوب، كأن تقول – بلسان حالها – لا قِبَل لنا بمقاومة هذه المؤامرة، وليس هناك خيار أمامنا إلا الاستسلام المطلق «!!!!!».. وذلك كله يخدم الشانئ المتآمر، ولربما هو نفسه – أي المتآمر – ألف كتبا في هذا المجال تدفع الأمة العربية الإسلامية إلى هذا الاستسلام.
والسؤال الخاتم هو: كيف نفكر في هذه القضية: السياسية الفكرية الإعلامية الاجتماعية الحضارية؟
أولا: نفكر فيها بتكييفها تكييفا عقلانيا منهجيا موضوعيا:
أ) يصوِّر الكيد الخارجي كما هو، أي في حجمه الحقيقي، وفي مداه كله؛ دون هوى، ولا غباوة، ولا لؤم شخص موحى به من الخارج، وبلا تهوين، ولا تهويل، على أن يقترن ذلك بتنوير الرأي العام بالمخاطر الجدية التي تحيط به، ولكن دون ترويع.
ب) يحصي أسباب التخلف الذاتية إحصاء دقيقا، ويصفها بعلم وواقعية وصراحة دون هوى ولا غباوة أو هوان أو (تدليل للذات)، على أن يقترن ذلك بتنوير الأمة بأخطائها الذاتية ونقدها بقوة ومثابرة وبسالة ودون هوادة، ولا سيما أن منهج الإسلام في نقد الأخطاء الذاتية هو: التفتيش – أولا – في أخطاء الذات، قبل تسبيب المصائب التي تصيبها بأفعال الخصوم الشانئين: «أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم».
ثانيا: ونفكر فيها بتوطين التفكير على أن للتقدم سننا وأسبابا مَنْ أخذ بها تقدم ولو كان كافرا، ومن فرط فيها تخلف ولو كان مسلما.
ثالثا: ونفكر فيها بتعلم «فن الدهاء»، وهو فن متاح لكل ذي عقل من البشر، فخير من العويل من «مكر الدهاة» أن يتعلم العرب والمسلمون كيف يكونوا «دهاة»؟ (مع الالتزام بأصول الأخلاق على كل حال).
رابعا: ونفكر فيها بترسيخ الاقتناع واليقين بأن كل مخطط شرير تمكن هزيمته بتخطيط أدق، وحيلة أبرع، وحبكة أذكى، ونظرا أبعد، ودفعا أقوى: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض».
نقلا عن الشرق الأوسط: الغلو في المؤامرة «خدمة لها».. ونفيها «جزء منها»