هذا مقال يعبر بعض الشيء عن تغير كبير وجذري في أوضاع الدول الديكتاتورية خاصة ذات الأيديولوجية الماركسية، حيث يذكر سقوط كثير من الأكاذيب الدجلية الكبرى القائمة عليها هذه الأنظمة، وبالتالي أصبحت الظروف الدولية والمجتمعية الجديدة لا تسمح باستمرار بقائها، لكن الكاتب أخطأ باعتباره الأنظمة في روسيا وأوروبا الشرقية قد آمنت بحقوق الإنسان، فهذه لم تكن سوى كذبة خدعونا بها، واستمروا على حال مشابه كثيرا في انتهاك حقوق الأنسان لما عليه قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، لذا أتوقع أيضا أنه ربما تمتد الثورات أيضا إلى داخل روسيا والصين وأمريكا الجنوبية فضلا عن إيران، بسبب تشابه الظروف فيها بما هي عليه في ليبيا وسوريا، لكن هذا لا يعني بالضرورة سقوط هذه الأنظمة، كما أنه بالتأكيد لا يعني انتهاء الأيديولوجية الماركسية:
علي سالم: هذا عصر زوال الديكتاتوريات
شاهدت هذا المشهد ربما لمئات المرات في أفلام الحرب العالمية الثانية وغيرها، مدرعة تتقدم نحو خطوط العدو وخلفها جماعة من المشاة في تشكيل هجوم، غير أنني عندما شاهدتها منذ عدة أيام على الشاشة الصغيرة في نشرات الأخبار، استولى عليّ الرعب. كانت المدرعة سورية، تابعة للجيش السوري، تتقدم على الأرض السورية في طريقها لمهاجمة درعا، وهي مدينة سورية يسكنها سوريون. هذا هو المشهد الختامي في سيناريو فيلم الديكتاتورية وكل ديكتاتورية. لا مفر من هذا المشهد الذي تقرر فيه الحكومة أن تقاوم شعبها بكل ما تملكه من أدوات الدمار، إنه المشهد الإجباري، كما نسميه في الدراما، وخاصة عندما تكون الحكومة مقاومة وممانعة بطبيعتها. إنه المشهد النهائي الذي تنفجر فيه دفعة واحدة كل الأكاذيب العملاقة التي كبست على أرواح البشر وكلبشت عقولهم لسنوات طويلة، حصلت فيها الحكومة على ترخيص بالديكتاتورية وحرمان المواطن السوري من حقوقه الإنسانية الطبيعية، وذلك من أجل تحقيق هدف أسمى هو المقاومة والممانعة، وتمر السنون تجر السنين ليكتشف المواطن أن عملية المقاومة ليست موجهة ضد العدو الإسرائيلي الذي يحتل جزءا من الأرض السورية، بل موجهة ضده هو، ضد المواطن والشعب السوري، ضد رغبته في الحرية والحياة الطبيعية، يا لتعاسته ويا لسوء حظه، ويا ويله وسواد ليله، ذلك المواطن الذي تقاومه حكومته بشرطتها وجيشها وشبيحتها ومدرعاتها.
رحلت حكومات، وأخرى على وشك الرحيل، لم يحدث ذلك بالصدفة أو سوء الطالع، بل لأسباب ستظل لعقود كثيرة محل اهتمام تلامذة العلوم السياسية، عندها ربما يقول المؤرخ عن عصرنا هذا إنه عصر «زوال الديكتاتوريات»، لست أفكر بالتمني، بل بالحسابات الدرامية، وأصل الحكاية، أنه بعد هزيمة الفاشية والنازية في الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي تعاون فيها الغرب الرأسمالي مع الشرق الاشتراكي، بدأت على الفور الحرب الباردة بين المعسكرين، لقد انتصرت قيم الحرية وحقوق الإنسان على الدعوات العنصرية والقومية، غير أنها ظلت عاجزة عن الانتقال بوضوح للمنطقة العربية، فقد كان التيار الفكري العام، على الأقل في مصر، ينظر لهتلر بوصفه بطلا عظيما، بل وسرت شائعات في مصر بأنه أسلم وسمى نفسه «الحاج هتلر»، وعندما كانت جيوش روميل في منطقة العلمين بالقرب من الإسكندرية، هتفت الجماهير في المظاهرات.. إلى الأمام يا روميل.
كانت فكرة حقوق الإنسان في ذلك الوقت غامضة، وربما غير واردة، فقد كانت الناس منشغلة بشيء واحد، هو التحرر من الاستعمار البريطاني، وعندما يكون هتلر هو من يحارب الإنجليز فلا بأس من أن يتقدم لاحتلال القاهرة، ربما كان هناك في ذلك الوقت كاتب واحد أعلن في وضوح أنه ضد النازية والفاشية؛ هو عباس محمود العقاد.
بين الكتلتين ظهرت منطقة حرة، محررة من الحرية وحقوق الإنسان، أطلق عليها اسم العالم الثالث، قفز عليها، أو على معظمها، عدد من المغامرين السياسيين الطموحين الذين وجدوا في الكتلة الشرقية خير نصير، وهنا بدأ مصنع الأكاذيب العملاقة يعمل بكامل طاقته في المنطقة العربية، فإذا كان العالم قد انقسم إلى كتلتين، فالمنطقة العربية أيضا انقسمت إلى قسمين؛ الثوار الأحرار أصحاب مصانع الأكاذيب العملاقة في ناحية، والرجعية العربية الداعمة للإمبريالية في الناحية الأخرى، وعليك أن تختار بينهما.
تم تلخيص الحياة في عدد من الكليشيهات؛ لا يوجد ما يسمى بالحرية الفردية، توجد فقط حرية الشعب في أن يكره كل أعداء الشعب، وفي كل صباح تنزل الأسواق عبر توكيلات السلطة ومحلات التجزئة، قائمة بأعداء جدد عليك أن تحاربهم، لا تفكر في أي حق من حقوقك فربما يقودك ذلك إلى معسكر الإمبريالية، والرجعية العربية والصهيونية العالمية. كل شخص أجنبي تراه في الشارع هو جاسوس محتمل لأميركا أو إسرائيل، كل جهة أجنبية هي ساتر لجهاز مخابرات أجنبي، احترس..
نحن فقط من سيحقق لك الوحدة العربية ومعها الحرية فوق البيعة، ونحن فقط من سيحرر فلسطين.. هل تريد تحرير أحد آخر؟ ولكن قبل كل ذلك لا بد أن تتنبه إلى أن أعداءنا أقوياء جدا، غير أننا سنتمكن من القضاء عليهم جميعا بمساعدة أصدقائنا الاشتراكيين.
وانتهت الحرب الباردة بفشل المعسكر الاشتراكي، الذي تحول هو الآخر إلى الإيمان بالحرية الفردية وحرية السوق، مصانع الأكاذيب العملاقة في منطقتنا، أغلقت أبوابها وسكنت ماكيناتها، حدث لها ما حدث لمصانع الطرابيش في مصر، من المستحيل ترويج سلعة ليس لها مستهلك، شخص واحد فقط في الشرق الأوسط ما زال يمد الأسواق بأفكاره التي لم يعد يهضمها أحد من شعبه، هو السيد أحمدي نجاد، الذي لن يجدي معه فتح صفحات جديدة قبل أن يفتحها هو مع شعبه.
ولكن لماذا لم تعد الناس تستهلك الأكاذيب الكبيرة، وهو الطعام الذي عاشت عليه لسنوات طويلة؟ الواقع أن المستهلك القديم لهذه الأكاذيب لم يعد له وجود، أو ربما لم تعد معدته قادرة على هضمها، واكب ذلك ظهور جيل جديد من الشباب، هو لا يريد الوحدة العربية، يريد فقط فرصة عمل في بلده أو في أي بلد عربي أو حتى – يا ليته – يكون بلدا إمبرياليا، هكذا ظهر على الأرض العربية جيل جديد من الشبان يشعر بالإهانة من كل هذه الأكاذيب التي حرمته طويلا من الحياة الكريمة، فقرر – مهما كان الثمن المدفوع – أن يحارب حكوماته بالمظاهرات، في الوقت الذي قررت فيه هي أن تحاربه بالمدرعات وطلقات الرصاص. هكذا انكشفت اللعبة، لا إمبريالية، ولا رجعية ولا تحرير القدس، بل الحكم فقط بما فيه من نعيم ولذائذ.
المواطن العربي الآن يريد فقط أن يعمل وأن لا يسرق أحد ثمار عمله، هل هذا الأمر يتطلب معجزة؟ المعركة في ليبيا قاسية وستكون أكثر قسوة ودموية، غير أنها محسومة؛ لن يتراجع الغرب عن دعم الثوار لأي سبب من الأسباب، لأن كل حكامه يعانون من إحساس ثقيل بالذنب تجاه الشعب الليبي وتجاه شعوبهم وتجاه التاريخ، كيف سمحوا لأنفسهم بالتعامل، ولسنوات طويلة، مع شخص يفجر رجاله طائرة مدنية امتلأت بالبشر؟ لا بد أن هذا السؤال قد عذبهم طويلا.
أما بالنسبة لسوريا، واحتمال أن ينجح النظام في قمع الشعب السوري وأن يحكمه بالحديد والنار، وهو الاحتمال الذي يفكر فيه الزميل عادل الطريفي، فهو وارد، غير أن الحكم التاريخي قد صدر؛ المزيد من النار والمزيد من جثث الضحايا على إسفلت الشوارع، من شأنه أن يكون دافعا قويا لبعض أركان النظام من أصحاب الضمائر، لإيقاف هذه المهزلة الدموية. نعم.. هذا عصر زوال الديكتاتوريات.