درجات الأمر بالمعروف: درجات الإيمان, ويمثلها الدرجات من موجب (+1) إلى موجب(+4), أدناها الدرجة الأولى (عمل القلب) وأعلاها الرابعة بذل النفس والمال, فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصاً من الدرجة الأولى(عمل القلب: أي تصديقه وخضوعه)، إلى الدرجة الثانية (عمل اللسان: أي التعاطف مع الإسلام بالقول) لكانت نقلة في الاتجاه الإيجابي، فكيف لو نقله إلى الدرجتين الثالثة أو الرابعة؟.
وهكذا لو استطاع أن ينقل شخصاً من الدرجة الثالثة إلى الرابعة أو من الثانية إلى الثالثة, إذن فكل نقلة باتجاه اليمين تعتبر نقلة إيجابية، وبهذا العمل نكون قد طبقنا قاعدة تحصيل المصالح وتكميلها، أو ترجيح خير الخيرين. ونكون قد والينا المؤمنين بقدر درجة إيمانهم وبذلهم للإسلام.
ومن المعلوم أن الانتقال ما بين الدرجات (+1) و(+4)، لا يلاحظه البعض من الناس، وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها مباشرة، مع انه باب من أبواب الدعوة، إذ به يزداد المعروف في الأرض تدريجياً، وهذا مقصود لذاته.
درجات النهي عن المنكر: درجات الكفر, ويمثلها الدرجات من (-1) إلى (-4) أدناها الدرجة (-1): درجة (كفر القلب: أي تكذيبه، وعدم الخضوع والانقياد) وأعلاها (-4): (بذل النفس والمال في الصد عن الإسلام). فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصاً من الدرجة (-4) درجة: بذل المال والنفس في محاربة الإسلام، إلى الدرجــة (-3): التي يقوم فيها الشخص بالمنكرات, لكانت نقلة في الاتجاه الإيجابي، فكيف لو نقله من الدرجة (-4) الـى (-1): درجة (كفر القلب)؟.
إذاً بهذا العمل وعلى الرغم من أننا لم نوفق بإخراج الشخص من الكفر إلى الإيمان، نكون قد عملنا بقاعدة تعطيل المفاسد وتقليلها، أو دفع شر الشرين. وعادينا الكافرين بقدر درجة كفرهم وصدهم عن دين الإسلام، فكلما ازدادوا بموقفهم سوءاً، زيد عذابهم. قال تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل:88]. ومن المعلوم أن الانتقال ما بين الدرجـات (-4) و(-1)، لا يلاحظه كثير من الناس، وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها مباشرة، مع أنه باب من أبواب الدعوة، إذ به ينحسر الفساد في الأرض تدريجيا،، وهذا مقصود لذاته كذلك. فلو أن مسلما، ، قام بعمل كانت نتيجته بقاء الكفر، ولكن انتقل موقف أهله من (-1) الى (-2)، أو من (-3) الــى (-4)، كان عمله محرماً. فكيف به لو قام بعمل أخرج به البعض من دائرة الإسلام إلى الكفر، وهو يظن نفسه محسناً؟
ومما يجدر التنبيه إليه: أن البعض ممن قل علمهم بهذا، قد يصنف العلماء العاملين بهذا المنهج الأصولي بالعمالة، إذا أفتوا بدفع الشر الأكبر بالشر الأصغر، إذا لم يندفعا جميعاً، ومثاله، انظر الحاشية([1]).
ولتوضيح الأمر أكثر نضرب مثلاً بما حدث في صلح الحديبية، ولماذا سمي بالفتح المبين ؟
لقد بدأت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمفرده، ومع الزمن والصبر على أذى المشركين، بدأ الناس بالانتقال من درجات الكفر{(-4)-(-1)} إلى درجات الإيمان {(+1)-(+4)}، ولقد كانوا متفاوتين في موقفهم الأولي من الإسلام حين دُعوا إليه، فلم يكونوا كلهم في الدرجة (-4) المعادية للإسلام بالمال والنفس، كموقف أبي جهل لعنه الله، ومع استمرار الدعوة أخذ المشركون بالانتقال من درجة إلى التي تليها باتجاه الإسلام، ومنهم من دخل فيه وبدأ بالترقي في درجات الإسلام {(+موجب1)-(+موجب4)}، إلا أن الدرجة الرابعة (+موجب4) في العهد المكي، كانت ببذل المال في سبيل الدعوة فقط، ولم يكن قد فرض الجهاد بعد.
وبعد الهجرة إلى المدينة، قويت شوكة المسلمين، وقاموا بالعديد من الغزوات، وعلى رأسها (بدر الكبرى). وفي السنة السادسة من الهجرة وقّعَ الرسول صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع قريش، وأخذ بنشر الدعوة خارج المدينة المنورة مستغلاً فترة وضع القتال لمدة عشر سنين، فازداد عدد المسلمين، فدخل فيه في غضون سنتين أكثر ممن أسلموا في تسعة عشر عاماً مضت، وممن أسلم في هذه الفترة خالد بن الوليد رضي الله عنه.
يقول ابن كثير في تفسير أول سورة الفتح:
((فقوله: (إنا فَتحنا لك فتحاً مُبيناً) أي: بَيّناً ظاهراً، والمراد به صلح الحديبية. فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع والإيمان))
ويقول الطبري في تفسيره:
((قوله: (فَجَعلَ مِن دُون ذَلِك فَتحاً قريباً) يعني: صلح الحديبية؛ وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب وآمن الناس كلهم بعضهم بعضاً، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر)).
أقول: لماذا تضاعف عدد المسلمين في غضون سنتين فقط؟
نعلم مما سبق من قول الطبري وابن كثير وغيرهما، أن السبب في ذلك، هو توقيع الهدنة ووضع الحرب، لأن مناخ الحروب يؤجج النفوس ويشحنها للدفاع عن المعتقدات والأرض والعرض، فتأخذ المشركين حمية الجاهلية.
فلو نزل الرسول صلى الله عليه وسلم ، على رأي عمر بن الخطاب وعامة الصحابة رضي الله عنهم، وقاتلوا المشركين حين منعوهم من أداء العمرة، وقامت الحرب، لتراجع كل أؤلئك الذين كانوا قد اقتربوا من الإسلام عدة درجات عن درجاتهم، فبعضهم كان قد أوشك على الدخول في الإسلام، فوصل إلى الدرجة (الصفر) درجة الحياد، وبعضهم وصل إلى الدرجة (-1): درجة (كفر القلب: أي تكذيبه، وعدم الخضوع والانقياد)، وبعضهم إلى الدرجة (-2): درجة (استعمال اللسان في الصد عن الإسلام)، وهكذا. وبهذا يتبين لنا أن النصر الحقيقي والفتح المبين، هو فتح القلوب للدخول في الإسلام، ويكون أحياناً في الموطن الذي يراه الناس، موطن ذل وهزيمة، فمن كان يتصور أن في هاتين السنتين سيدخل في الإسلام من المشركين أكثر من عدد من أسلم منذ تسعة عشر عاماً مضت؟ فكان ذلك سبباً وجيهاً آخر لفتح مكة. ألم يرتجف أبو سفيان من عدد جيش فتح مكة المقدر بعشرة آلاف مقاتل من المسلمين؟
لذا على المسلين أن يحرصوا على كل أسلوب حسن يقرب المشركين من الإسلام ولو خطوة، وأن يتجنبوا كل ما يبعدهم عن الإسلام ولو خطوة.
فهل ما يقوم به بعض الجهلة باسم الإسلام وتحت يافطات إسلامية من أعمال إرهابية وصلت إلى حد ذبح الأبرياء[2] والتفاخر بذلك ونشره مصوراً في وسائل الإعلام، يقرب غير المسلمين من الإسلام، أم أن هذه الأعمال ستشكك حديثي العهد بهذا الدين، فضلاً عن أن يدخلوا فيه؟
ألم يقل الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8]؟
ألم تحمل الآية رداً مسبقاً على تصورات البعض الخاطئة في هذه الأيام، ممن يعتقدون أن مجرد معاملة من لم يقاتلوننا في ديننا من غير المسلمين، بالبر والإحسان يُعَدّ من باب الموالاة لهم؟
بناء على ما سبق ذكره، فإنه يحسن أن نبين العلاقة الطردية بين الأعمال الصالحة من جهة ودرجة التغيير إلى الأحسن في المجتمع من جهة أخرى. وكذلك العلاقة العكسية القائمة بين الأعمال السيئة من جهة، ودرجة التغيير إلى الأحسن في المجتمع من جهة أخرى.
فقد مضت سنة الله تعالى أن تغيير الأنفس في المجتمع بما يرضي الله تعالى بنسبة تعمّ فيه وتظهر، وتكون هي الأغلب، سيؤدي ذلك بإذن الله وتوفيقه إلى تغيير ما بالقوم إلى الأحسن. والتغيير الكلي المطلوب، هو محصلة إيجابية لتغيير جميع ما في النفس البشرية من الأفكار والمعتقدات التي تبنى عليها الأعمال والأقوال.
وعليه فإنه يلزم كل فرد من أفراد المجتمع الحرص على ما يلي:
1- أن يتعرف على درجة تعاطفه مع الإسلام، هل هي مؤيدة بالقلب فقط، أم أنها بالقلب واللسان، أم أنها أرفع من ذلك.
2- المبادرة بنقل نفسه من الدرجة التي يشغلها حالياً، إلى الدرجة التي تليها، والتي تليها، وهكذا، لقوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]. وإن لم يستطع أن يترقى من درجة إلى أخرى، عليه أن يترقى في الدرجة الواحدة، وذلك لتفاوت أهل التوحيد في الدرجة الواحدة، فعلى سبيل المثال، يتفاوت المصلون في أجرهم بقدر حسن إقامتهم للصلاة: أركانها، وطهورها، وخشوعها، ونوافلها، وموضعها. وكذلك يتفاوتون في الصدقات، وغيره.
3- أن يدعوا المسلمين إلى الانتقال من درجة إلى أخرى تليها في الإيجابية، ليزداد الإيمان في المجتمع، فتقترب محصلته من الدرجة التي يرضاها الله تعالى لاستحقاق التغيير الإيجابي المنشود في القوم.
4- على المسلم أن يشعر أنه بترقية أي فرد من أفراد المجتمع، من درجة إيجابية إلى أخرى، يزداد الإيمان في المجتمع، فيقترب من الدرجة التي يرضاها الله تعالى لاستحقاق التغيير الإيجابي المنشود في القوم. فإن أي زيادة في المعروف مهما قلّ شأنه في نظر فاعله، يعدّ بركة، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)) [رواه مسلم].
5- على المسلم الاعتراف، بأن تراجعه، أو أي فرد من أفراد المجتمع، من درجة إلى التي تليها في الاتجاه السلبي، سيؤدي إلى نقصان درجة الإيمان في المجتمع، وبالتالي نقصان معدله، أي أنه بهذا التراجع يساهم بالابتعاد عن الدرجة التي يرضاها الله تعالى لاستحقاق التغيير الإيجابي المنشود في القوم، وبالتالي يساهم في الهزيمة التي ستلحق بالمسلمين. أي: إذا ترك مصلٍ صلاته، أو صائمٍ صومه، أو داعيةٌ دعوته، وأمثال ذلك، أو ارتكب معصيةً صغرت أم كبرت، فإن هذا التراجع عن أداء واجب أو الجرأة على فعل محرم، يؤدي إلى ما ذكرنا. وبهذا سندرك المعاني العظيمة، والعبر في قوله صلى الله عليه وسلم: ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)). [رواه البخاري والترمذي].
فإنه من الخير، أن يقوم الدعاة والوعاظ والعلماء بنشر هذه المفاهيم في الناس، ليقبلوا على الخير أو يزدادوا بها خيرا، وليجتنبوا الشر، أو ينقصوا منه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
عدنان الصوص
(1) دفع الخطر الاشتراكي الأكبر، بالخطر الرأسمالي، ومن صور الاشتراكية (النظام الإيراني الخميني، والنظام البعثي الاشتراكي في العراق وسوريا، ونظام كل من ليبيا، وتونس، والجزائر، والصين، وكوريا الشمالية، وكوبا، وروسيا الاتحادية وهكذا. ومن صور الرأسمالية: دول أوروبا، وأمريكا وأمثالها. انظر كتابنا ((المنابرالإعلامية بين تجاهل الخطر الاشتراكي وظاهرة معاداة أمريكا)).
(2) ومن صور أعمالهم المنحرفة تكفيرهم لمن مارس حقه في الانتخابات في العراق، ومن ثم قتلهم في مراكز الاقتراع، إذ قاموا يوم الاقتراع بـ (13) عملية قتل فيها العشرات من المقترعين، كما تناقلته وسائل الإعلام.