وحدة الوجود في كتابات أبو حامد الغزالي 2/2

تلخيص كتاب حقيقية الصوفية الجزء 4

نكمل كلام الشيخ الغزالي في وحدة الوجود وملحوظات الشيخ محمود عبد الرؤوف القاسم عليها، يقول الغزالي أيضاً:

…علم المكاشفة -وهو علم الباطن- وذلك غاية العلوم، …وهو علم الصديقين والمقربين فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة [1]، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها، فيتوهم لها معانٍ مجملة، غير متضحة، فيتضح إِذ ذاك، حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه، … ومعنى لقاء الله عز وجل، والنظر إِلى وجهه الكريم، ومعنى القرب منه والنزول في جواره… وبعضهم يدعي أموراً عظيمة في المعرفة بالله عز وجل… فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور إيضاحاً يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه [2].

* الملحوظات:

أ- علم المكاشفة هو علم الباطن، وهو غاية العلوم. ب- يجب التصديق به والتسليم لأهله. ج- هو علم الصديقين والمقربين، وعلينا أن نلاحظ ما في الفقرتين (ب، ج) من إيحاء براق وجذاب! كما علينا أن ننتبه إلى تزكيتهم أنفسهم (صديقون ومقربون) بالرغم من الآيات الكريمة: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49-50] و((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32].

د- يلقي الغزالي هنا بصيص نور على السر الذي يكتمونه (نور يظهر في القلب، تتضح به المعرفة بذات الله وبصفاته التامات، حتى أن (بعضهم يدعي أموراً عظيمة)، وتتضح أيضاً معرفة معنى النظر إلى وجهه الكريم…)، وعلينا أن ننتبه بشكل خاص إلى قوله: (المعرفة بذات الله)، وهي بقية العبارات جزء يسير من السر سمح لنفسه أن يسطره في هذه الفقرات، فهذا الخيط إذا أمسكناه فسنصل إِلى السر.

ويقول: …وعبر ابن عباس رضي الله عنهما عن اختصاص الراسخين في العلم بعلوم لا تحتملها أفهام الخلق، حيث قرأ قوله تعالى: ((يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)) [الطلاق:12]، فقال: لو ذكرت ما أعرفه من معنى هذه الآية لرجمتموني، وفي لفظ آخر: لقلتم: إِنه كافر[3].

– وطبعاً ابن عباس بريء من هذه الضلالات والهذيانات.

ويقول أَيضاً: … ولكنا نشير منها إِلى ملامح، ونقول: ها هنا نظران: نظر بعين التوحيد المحض، وهذا النظر يعرفك قطعاً أنه الشاكر وأَنه المشكور، وأنه المحب وأَنه المحبوب، وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره، وأن كل شيء هالك إِلا وجهه، وأن ذلك صدق في كل حال أزلاً وأبداً؛ لأن الغير هو الذي يتصور أن يكون له بنفسه قوام، ومثل هذا الغير لا وجود له، بل هو محال أن يوجد، إِذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه، وما ليس له بنفسه قوام، فليس له بنفسه وجود، بل هو قائم بغيره، فهو موجود بغيره، فإِن اعتبر ذاته ولم يلتفت إِلى غيره لم يكن له وجود ألبتة، وإنما الموجود هو القائم بنفسه، والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقي موجوداً، فإِن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره، فهو قيوم، ولا قيوم إِلا واحد، ولا يتصور أن يكون غير ذلك.. فإِذا ليس في الوجود غير الحي القيوم، وهو الواحد الصمد، فإِذا نظرت من هذا المقام، عرفت أن الكل منه مصدره، وإليه مرجعه [4]

* ما يجب أَن نلاحظه:

أ- في هذا النص كشف الغزالي حجاباً آخر عن السر المصون، ومع ذلك فهو يشير إِلى ملامح منه، وقد سمى السر هنا (التوحيد المحض) (وهذا النظر بعين التوحيد المحض يعرفك أنه الشاكر وأنه المشكور، وأنه المحب وأنه المحبوب بل وأنه ليس في الوجود غيره)، (وأخيراً صرح بالسر المصون، فغدا السر غير مصون)، ومع هذا التصريح فقد لا يكون القارىء قد عرف هذا السر بعد.

ب- بعد التصريح بالسر (ليس في الوجود غيره)، هذا التصريح الذي قد يجرد عليه السيوف، بدأ الغزالي يلوك بأُسلوب علم الكلام، ليبعد به شبح ما بعد التكفير، ثم يعي ليقرر من جديد: (فإِذاً ليس في الوجود غير الحي القيوم…الكل منه مصدره، وإِليه مرجعه..).

ويقول: …الفريق الثاني ليس بهم عمى، ولكن بهم عور؛ لأنهم يبصرون بإِحدى العينين وجود الموجود الحق، فلا ينكرونه، والعين الأخرى إِن تم عماها لم يبصر بها فناء غير الموجود الحق، فأثبت موجوداً آخر مع الله تعالى، وهذا مشرك تحقيقاً…فإِن جاوز حد العمى إِلى العمش أدرك تفاوتاً بين الموجودين، فأَثبت عبداً وربًّا، فبهذا القدر من إِثبات التفاوت والنقص من الموجود الآخر دخل في حد التوحيد، ثم إِن كحل بصره بما يزيد في أنواره، فيقل عمشه، وبقدر ما يزيد في بصره يظهر له نقصان ما أَثبته سوى الله تعالى، فإِن بقي في سلوكه كذلك، فلا يزال يفضي به النقصان إِلى المحو، فينمحي عن رؤية ما سوى الله، فلا يرى إِلا اللّه، فيكون قد بلغ كمال التوحيد، وحيث ادرك نقصاً في وجود ما سوى اللّه تعالى دخل في أوائل التوحيد…وترجمته قول: (لا إِله إِلا الله)، ومعناه أن لا يرى إلا الواحد الحق، والواصلون إِلى كمال التوحيد هم الأقلون…إذ عبدة الأوثان ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3]، فكانوا داخلين في أوائل أَبواب التوحيد دخولاً ضعيفاً[5] .

لا بأس الآن من إِضافة فقرة متممة للنص، أفردتها عنه لأن لها قيمة خاصة، يقول: (.. وفيهم من تنفتح بصيرته في بعض الأحوال، فتلوح له حقائق التوحيد، ولكن كالبرق الخاطف لا يثبت، وفيهم من يلوح له ذلك ويثبت زماناً ولكن لا يدوم، والدوام فيه عزيز). وهذه صورة مما يحدث عندما يبلغ السالك إِلى ما يسمونه: (الفناء في الله أَو الجمع..)، ستفيدنا فيما بعد.

ويقول: …فإِن قلت: كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحداً؟ … وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدة واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهد والاعتبار، وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد، … فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحدٌ، وباعتبارات أخر سواه كثيرٌ، وبعضها أشد كثرة من بعض… وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إِلا الواحد الحق تارةً تدوم وتارةً تطرأ كالبرق الخاطف وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز[6]

* الملحوظات على النصين الأخيرين:

أ- في النص الأول، قوله: (فأَثبت موجوداً مع الله تعالى وهذا مشرك تحقيقاً)، يقرر فيه بأسلوب فيه رونق، أَن من يرى أَن هذه المخلوقات هي شيء غير الله تعالى فهو مشرك تحقيقاً. أي إنه – آخر الأمر- شرح لنا ما هو السر، ولكن بأسلوب فيه شيء من الزحلقة للقارىء. وفي النص الثاني يرد على شبهة من يقول: كيف لا يشاهد إلا واحداً مع وجود السماوات والأرض؟.. ويقرر أَن هذا هو علم الكشف، وبالتالي هو السر الذي لا يجوز أَن يسطر في كتاب.

ب- قوله: (فلا يرى إلا الله، أَي: لا يرى في هذا الكون في كل ما يراه من المرئيات إِلا الله، فيكون قد بلغ كمال التوحيد. وفي النص الثاني، يوضح أَكثر فأَكثر، فيقول: (وكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات…فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد..). إِذاً: فالخالق والمخلوق هما واحد، أو هما وحدة… وهكذا، وضح لنا السر أخيراً، إِنه (وحدة الوجود)، وما أدراك ما وحدة الوجود؟!

ج- في النص الأول يقرر أن عبدة الأوثان داخلون في أوائل التوحيد دخولاً ضعيفاً. فأسال: إِن لم يكن هذا هو الكفر والزندفة، فما هو الكفر والزندقة؟ وأُنبه إِلى أن القارىء الكريم عندما يمتلك ناصية العبارة الصوفية سيعرف أن معنى جملة الغزالي هو أن عبدة الأوثان دخلوا في التوحيد عندما عبدوا الوثن (لأنه جزء من الله) وكان دخولهم ضعيفاً بسبب قولهم: ((…لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) ؛ لأن هذا القول هو تفريق بين الخالق والمخلوق، وهو عكس التوحيد (عند الصوفية)، ولو كانوا داخلين في التوحيد دخولاً كاملاً لقالوا- عن إِيمان وعقيدة-: إِنهم يعبدون الله بعبادتهم للصنم؛ لأنه جزء من الله.

– أطلب من القارىء الكريم أن يقرأ النصين الأخيرين بتعمق ويكرر قراءتهما حتى يستوعبهما جيّداً، ففي هذا تسهيل كبير لفهم كل نصوصهم، وفهم سرهم. وأختم هذه الجرعة الضئيلة من بحر أقوال الغزالي في هذا الموضوع بنتف من تائيته؛ يقول:

إِذا كان قد صح الخلاف فواجب      على كل ذي عقل لزوم التقية[7]

وهل أنا إِلا أنت ذاتاً ووحدة          وهل أَنت إِلا نفسي عين هويتي

فدنت بأمر حرمته شريعتي             وأحييت حكماً قد أماتته سنتي

– لا بأس من التنبيه إِلى فكرة (لزوم التقية) في البيت الأول، حيث نعرف أَننا أَمام (فرقة باطنية) ترى لزوم التقية، وقد مر هذا، وهي ملحوظة هامة جدًّا جدًّا. ويجب أَن أَعود فأنبه في أقوال الغزالي إلى ما يلي:

1- اعتبار الغزالي أَن كشفهم هو الحق والحقيقة والصدق، وإليه يجب أَن يرجع في كل الأمور، حتى القرآن الكريم والسنة يجب أن يعرضا عليه ليحكم في صحتهما، فهذا إِن لم يكن كفراً وزندقة، فما هو الكفر والزندقة؟!

2- ليس في الوجود غير الله، وكما يعلم كل من في بصيرته ذرة من عقل أو إيمان أن الكون موجود أوجده الله، ولكن عند الغزالي -وعندهم- الكون هو الله، وهي وحدة الوجود. ويقرر أن من يثبت موجوداً آخر مع الله، أي: (من يقول: إِن المخلوقات هي غير الله) هو مشرك تحقيقاً!! سبحان الله! ما هو هذا الكشف الغريب العجيب!!! إِننا نقرأ في كتاب الله مثلاً: ((إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) [البقرة:173]، وواضح حتى للأغبياء أن عبارة (غير الله) تعني: الأوثان والقبور والأولياء وغيرهم، وكل هؤلاء مخلوقات. إِذاً: فالقرآن يقرر بوضوح كامل أن المخلوق غير الخالق، فنسأل (الحجة)، وأتباع الحجة، والمخدوعين بالحجة: هل القرآن شرك؟ أم الذين يخالفون القرآن هم المشركون؟

3- كلمة (التوحيد) يعني – ويعنون – بها (وحدة الوجود) وحيثما وردت في كلامهم فهذا هو معناها. ويقرر أن عابد الأصنام داخل في أوائل التوحيد. وتقريره أن وحدة الوجود هي مشاهدة الصديقين.

4- أنبه بشكل خاص إلى قوله في تائيته: (فدنت بأمر حرمته شريعتي وأحييت حكماً قد أماتته سنتي)، الذي نفهم منها أنهم يعرفون تماماً أن الصوفية تناقض الإسلام، كما يعترف بالشطر الثاني أن الإسلام أماتها، فجاء هو وأحياها؟! كما يُفهم من هذا الكلام أنها كانت موجودة قبل الإسلام.

في الموضوع القادم أقوال عبد القادر الجيلاني في وحدة الوجود

———————-

([1]) مرّ معنا قبل صفحات معنى عبارة: (صفاته المذمومة).

([2]) الإحياء: (1/18).

([3]) الإحياء: (4/85).

([4]) الإحياء: (4/74).

([5]) الإحياء: (4/75).

([6]) الإِحياء: (4/213).

([7]) النفحات الغزالية، (ص:149).

وحدة الوجود في كتابات أبو حامد الغزالي 2/2
تمرير للأعلى