عند غياب الدولة الإسلامية الأم أو الإمام الأعظم، هل يثبت للدول القائمة حكمها فتصح لهم البيعة ويكون الجهاد ماضيـاً معهم وبإذنهم وتكون علاقاتهم مع الدول لها صبغة شرعية؟ هذا الموضوع لا يهدف إلى تكريس حالة الفرقة والتقسيم كما قد يظن البعض، بل إلى التماس الحقيقة والحكم الشرعي الأقرب للصحيح للوضع القائم، وذلك لأن هذا يساعد كثيرا في وضع حجر الأساس لمشروع وحدة إسلامية وعربية قائمة على أسس سليمة وبالطريقة الصحيحة، أو على الأقل قيام اتحاد عربي إسلامي مشابه للاتحاد الأوروبي، حيث إن الفرق كبير بينا وبينهم، أنهم يعتبرون وضعهم كدول مستقلة عن بعضها وضعا شرعيا، وهذا أتاح لهم الحوار والتفاهم والاتحاد، بينما نحن كشعوب نعتبر حالة تقسيم دولنا غير شرعية وبحاجة لإعادة توحيد، وهذا يخلق فجوة بين الشعوب والدول، ويؤدي لردة فعل معاكسة عند قادة الدول باتجاه مزيد من القطرية المحلية على حساب الوحدة والجماعية.
فهل يجوز في حكم الشرع أن تكون هذه الدول – من حيث أنها منقسمة لا من حيث أنظمتها ودساتيرها – دولا شرعية ؟ حيث إنها قائمة كأمر واقع ويصعب تغييره إلا بقوة السلاح والحروب الأهلية وإراقة الدماء بين المسلمين، كما أن معرفة الشعوب بشرعية هذه الدول يزيد من تعاون الشعوب والدول في سبيل مصلحتها وازدهارها وحتى إلى عودة وحدتها بالطرق السلمية لأن في الإتحاد قوة في وجه المخططات اليهودية والإيرانية والصهيونية والغربية، ويخفف من حالة احتقان لا مبرر لبقائها، وقبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد من التنبيه أن ثمّة فرقاً بين حالتي القدرة والعجز عند تطبيق الأمر والنهي.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
((ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم, فان العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل)). ((مجموع الفتاوى)) (20/60-61). بمعنى آخر ثمّة فرق بين حالي الاختيار والاضطرار, ومن لم يفرق بينهما ((فقد جهل المعقول والمنقول)). ((العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)) (8/174). لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:173], وقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119].
فالمسألة بين يدي البحث هي فرع عن أصل وهو حكم عقد الإمامة. ومن المعلوم أن ((الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة “الدين وسياسة الدنيا, وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم)). ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص5). وإن لهذه الإمامة شروطاً وأحكاماً, ومن أحكامها حكم تعدد الأئمة وفيه عدة أقوال:
القول الأول: قول الكرّامية بجواز ذلك مطلقا” سواء في حالة القدرة أم العجز, محتجين بأن عليا” ومعاوية كانا إمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معه, واحتجوا بجواز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة, وقد فند القرطبي حججهم في تفسيره عند قوله تعالى{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }[البقرة:30], في الجزء الأول, الصفحات(273-274).
القول الثاني: قول الجمهور: عدم جواز تعدد الإمام الأعظم محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم” إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما” رواه مسلم في الإمارة رقم 1853. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) [رواه مسلم في الإمارة، رقم (1852)]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع, فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)) [رواه مسلم رقم (1844) وأوله: ((إنه لم يكن نبي قبلي)).
وممن قال من الجمهور بعدم جواز تعدد الإمام الأعظم:
النووي: حيث رد على من قال بجواز عقد الإمامة لأكثر من واحد إذا اتسعت الأقاليم بقوله: ((وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف ولظواهر إطلاق الأحاديث)). ((شرح صحيح مسلم)) (12/232). وقال أيضاً: ((لا يجوز نصب إمامين في وقت واحد وإن تباعدت إقليماهما, وقال الأستاذ أبو إسحق: يجوز نصب إمامين في إقليمين لأنه قد يحتاج إليه وهذا اختيار الإمام, والصحيح الذي عليه الجمهور هو الأول)). ((روضة الطالبين)) (10/47).
محمد الخطيب الشربيني: ((ولا يجوز عقدها لإمامين فأكثر ولو بأقاليم ولو تباعدت لما في ذلك من اختلاف في الرأي وتفرق الشمل)). ((مغني المحتاج)) (4/132).
الماوردي: ((وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد وإن شذ قوم فجوزوه)). ((الأحكام السلطانية)) (ص 9).
القول الثالث: يصح للاضطرار, وله ثلاث صور:
الصورة الأولى: التباعد في الأقطار: ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الأئمة لتباعد الأقطار:
الشوكاني: ((وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر من أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر كذلك, ولا ينعقد لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته. فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه, وكذلك صاحب القطر الآخر. فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله, كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب. ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته, ولا الدخول تحت ولايته, لتباعد الأقطار, فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها, ولا يدرى من قام منهم أو مات, فالتكليف بالطاعة والحال هذا تكليف بما لا يطاق. وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد.. فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية, والمطابق لما تدل عليه الأدلة, ودع عنك ما يقال في مخالفته, فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار. ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها)). ((السيل الجرار)) (4/512).
ابن كثير: بعد أن ذكر قول الجمهور القائلين بعدم الجواز قال: ((وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوّز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما. وتردد إمام الحرمين في ذلك. قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس بالعراق, والفاطميين بمصر, والأمويين بالمغرب…)). ((تفسير ابن كثير)) (1/74).
القرطبيّ: بعدأن ذكر حديث “إذا بويع لخليفتين قال: ((وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم ولكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخرسان جاز ذلك)). ((تفسير القرطبي)) (1/273).
الصورة الثانية: التغلب: ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الأئمة للتغلب:
إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان: ((وقال في (الغاية) ويتجه أنه لا يجوز تعدد الإمام, وأنه لو تغلب كل سلطان على ناحية كزماننا فحكمه كالإمام)). ((منار السبيل)) (2/353), وقد توفي عام 1353هـ.
الصّنعانيّ: ((قوله: عن الطاعة, أي: طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه. وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار, إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية, بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم. إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلّت فائدته)). ((سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام)) (3/499).
محمد بن عبد الوهاب: ((الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء, ولولا هذا ما استقامت الدنيا, لان الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد, ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم)). ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (7/932).
الصورة الثالثة: العجز أو المعصية أو غير ذلك.
ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الأئمة للعجز أو المعصية أو غير ذلك:
ابن تيمية: ((والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه, فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها أو عجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة, لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود, ويستوفي الحقوق..))((مجموع الفتاوى)) (34/ 175- 176).
ونؤكد على أنه لا يجوز الدعوة للتقسيم في حالة وحدة الدولة الإسلامية، وأن هذه حالة اضطرارية فقط وليست هي الأصل، كما يجب المحافظة على وحدة كل دولة على حدى، ولا يجوز بناء على ما تقدم الدعوة لتقسيم أي دولة إلى مزيد من الدويلات، بل ندعو للوحدة والتعاون، وقد يظن الكثيرون بأن هذا الزمان منذ مجيء الإستعمار الغربي وقيامه بتقسيم بلادنا هو أول تعدد دول يحدث في التاريخ الإسلامي، وهذا غير صحيح، فقد كانت هناك فترات وأزمنة ضعف مرت على الأمة وهي متعددة الدول لبعض الأسباب التي ذكرنا، ومن بدون مجيء استعمار ليقوم بهذا التقسيم، وأكثر من يعلمون ذلك هم دارسوا التاريخ الإسلامي، وسنأتي على أمثلة من التاريخ في موضوع قادم إن شاء الله بعنوان:
صور لتعدد الأئمة في التاريخ الإسلامي
عدنان الصوص