.. فإن قيل: فلمَ رمّز القوم كلامهم في طريقهم بالاصطلاح الذي لا يعرفه غيرهم، إلا بتوقيف منهم كما مر؟ ولم لم يظهروا معارفهم للناس- إن كانت حقاً كما يزعمون- ويتكلموا بها على رؤوس الأشهاد كما يفعل علماء الشريعة فى دروسهم، فإن في إخفاء العارفين معارفهم عن كل الناس رائحة ريبة، وفتحاً لباب رمي الناس لهم بسوء العقيدة وخبث الطوية؟
فالجواب: إنما رمَّزوا ذلك رفقاً بالخلق ورحمة بهم، وشفقة عليهم – (كذب ومغالطة، بل رمَّزوا خوفاً من سيف الحلاج) – وقد كان الحسن البصري! وكذلك الجنيد والشبلي وغيرهم، لا يقررون علم التوحيد إلا في قعور بيوتهم، بعد غلق أبوابهم، وجعل مفاتيحها تحت وركهم! ويقولون: أتحبون أن ترمى الصحابة والتابعون الذين أخذنا عنهم هذا العلم بالزندقة بهتاناً وظلماً.
* وقفة: هذا الكلام – أي: اتهام الحسن البصري والصحابة والتابعين بهذا الاتهام- هو البهتان والظلم، فقد كان الصحابة والتابعون والحسن البصري بريئين من هذه الزندقة، وفي كلامهم واتهامهم هذا مغالطة جريئة جدًّا جدًّا جدًّا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نتابع.
————–
..وما ذلك إلا لدقة مداركهم (أي: الصوفية) حين صفت قلوبهم وخلصت من شوائب الكدورات الحاصلة بارتكاب الشهوات والآثام! ولا يجوز لأحد أن يعتقد في هذه السادة! أنهم ما يخفون كلامهم إلا لكونهم فيه على ضلال، حاشاهم من ذلك!! فهذا سبب رمز من جاء بعدهم للعبارات التي دونت، وكان من حقها أن لا تذكر إلا مشافهة، ولا توضع في الطروس، ولكن لما كان العلم يموت بموت أهله إن لم يدوّن، دوّنوا علمهم ورمزوه مصلحة للناس، وغيرةً على أسرار الله أن تذاع بين المحجوبين.
وأنشدوا في ذلك:
ألا إن الرموز دليل صدقٍ على المعنى المغيّب في الفؤاد
وكل العارفين لها رموزٌ وألغازٌ تدق على الأعادي
ولولا اللغز كان القولُ كفراً وأدّى العالمين إلى الفسادِ
* والآن.. ليست وقفة، بل مشية! إذا قال الشاعر: (الرموز دليل صدق) فقد كذب الشاعر وكذب شعره؛ لأن الرموز عكاكيز الدجاجلة، والشعراء يتبعهم الغاوون، أما اصطلاحهم فقد غدا معروفاً لدى الباحث، ولننتبه بشكل خاص إلى قوله: (ولولا اللغز كان القول كفراً). نتابع.
فقد بان لك أنه ليس للإنسان مقابلة الوحوش والسباع الكواسر والظهور لهم، إلا إن علم قدرته على دفع أذيتهم له بتهيؤ أسباب القهر لهم بالقوة والمكنة والأنصار، فإن قيل: فلمَ لم يترك هذا العارف إظهار معارفه وأسراره بالكلية ويدخل فيما فيه الجمهور حتى يتمكن ويقوى فيكون ذلك أسلم له؟
* نعود إلى الوقفة، هنا أراد بقوله: (بتهيؤ أسباب القهر لهم بالقوة..) أن تكون (عبارة إشارية) فكانت أقرب إلى الإفصاح! لقد أشارت هذه العبارة إلى الكيد الذي يكيدونه للإسلام، وأفصحت عن الخطة التي وضعوها لذلك! أو بالأصح: الخطة الذي وضعها الشيطان ليكيد للإسلام باستخدامهم واستغلالهم! وفي قوله: (ويدخل فيما فيه المجهور حتى يتمكن..) إفصاح كامل عن أن ما هم فيه يختلف كل الاختلاف عما فيه الجمهور، أي: عن الإسلام. نتابع.
…ونقل الإمام الغزالي في (الإحياء) وغيره عن الإمام زين العابدين بن علي بن الحسين -رضي الله عنه- أنه كان يقول:
يا ربّ جوهر علمً لو أبوحُ به لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا
ولاستحلّ رجالٌ مسلمونَ دمي يروْن أقبحَ ما يأتونهُ حسنًا
قال الغزالي: والمراد بهذا العلم الذي يستحلون به دمه: هو العلم اللدني، الذي هو علم الأسرار، لا من يتولى من الخلفاء ومن يعزل، كما قاله بعضهم؛ لأن ذلك لا يستحل علماء الشريعة دم صاحبه، ولا يقولون له: أنت ممن يعبد الوثن([1]).اهـ.
* تعليق: هذا الشعر مفترى على زين العابدين، من قبل العارفين الصادقين الصديقين الأولياء.
ويقول محمد العربي السائح التجاني([2]):
..قال الشيخ علي الروذباري: (علمنا هذا إشارة فإذا صار عبارة خفي). ومن هنا احتاج أهل الله تعالى إلى وضع الِإشارات المصطلح عليها فيما بينهم، فيتكلمون بها عند حضور الغير وفي تآليفهم ومصنفاتهم لا غير، ولم يضعوها لأنفسهم؛ لأنهم يعرفون الحق الصريح في ذلك، والحامل لهم على وضعها الشفقة على الدخيل بينهم، خشية أن يسمع منهم أو يرى في تأليفهم شيئاً لا يصل إليه فهمه، فينكره، فيعاقب بحرمان علمه، فلا يعلمه بعد، والعياذ بالله تعالى…وكان بعض العارفين يقول: (نحن قومٌ يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقتنا، وكذلك لا يجوز أن يُنقل كلامنا إلا لمن يؤمن به، فمن نقله لمن لا يؤمن به دخل هو والمنقول إليه إلى جهنم، وقد صرح بذلك أهل الله تعالى على رءوس الأشهاد، وقالوا: من باح بالسر استحق القتل). فإن قيل: هلّا طوى العلماء من أهل الطريق بساط التأليف والتصنيف في مثل هذه العلوم وأمسكوا عن الخوض في رقائق الِإشارات ودقائق السر المكتوم؟ لأن الكلام في ذلك ربما ضر بالقاصرين من الفقهاء، فضلًا عمن عداهم، وربما خفيت وجوه المخرج فيه عن بعض النبلاء فضلاً عمن سواهم! أما كان عندهم من الحكمة والنظر للخلق بعين الشفقة والرحمة ما يمنعهم من الخوض في ذلك والتقحم لمضايق هاتيك المسالك؟! قلنا: قد ذُكر في (اليواقيت والجواهر) عن العارف بالله تعالى سيدي علي بن وفا رضي الله عنه، أنه قيل له مثل هذا فأجاب بقوله -رضي الله عنه-: يقال لهذا القائل: أليس الذي أطلع شمس الظهيرة ونشر ناصع شعاعها مع إضراره بأبصار الخفافيش ونحوها من أصحاب الأمزجة الضعيفة عليماً حكيماً؟ فإن قال: صحيح ذلك، ولكن عارض ذلك مصالح تربو على هذه المفاسد. قلنا له: وكذلك الجواب عن مسألتك! فكما أن الحق سبحانه وتعالى لم يترك إظهار أنوار شمس الظهر مراعاة لأبصار من ضعف بصره، فكذلك العارفون، لا ينبغي لهم أن يراعوا أفهام هؤلاء المحجوبين عن طريقهم؛ بل الزاهدين فيها، بل المنكرين عليها.. وكان تدوين معارفهم وأسرارهم من أحق الحقوق عليهم، لكون غيرهم لا يقوم مقامهم في تدوين أدوية أمراض القلوب وآداب حضرات الحق تعالى في جميع الأمور المشروعة؛ فإن لكل مقام حضوراً وآداباً تخصه…)([3]).
– ولتخليص ما مضى وتثبيته؛ يجب أن نتذكر دائماً وألا ننسى أبداً أن غاية الصوفية واحدة وهدفها الذي يسعون إليه واحد، رغم اختلاف عباراتهم وأسماء طرقهم، وكل ما مضى براهين، ونزيده قولاً آخر لعبد الحليم محمود، يقول:
إن لكل صوفي طابعاً معيناً، ولكلامه مذاقاً خاصًّا، والصوفية وإن كانوا جميعاً يسيرون إلى هدف واحد، وغاية لا مذاهب فيها، هي التوحيد- فإنهم يختلفون في الشكل، ويتفاوتون في الطريق، ومن هنا كانت الكلمة المأثورة: (التوحيد واحد- والتوحيد هو الغاية- والطريق إلى الله كنفوس بني آدم.. إنها تتعدد وتتفاوت)([4]).
– وهكذا عرفناً أن الغاية هي (وحدة الوجود)، وأنها غاية الصوفية وهدف جميع طرقها؛ ولا هدف ولا غايهّ لهم غيرها، والوصول إلى ذوقها هو ما يسمونه: (الِإحسان). وإن التقية واجبة، وهي التظاهر بالإسلام وشرعه، وإخفاء العقيدة الصوفية إلا لأهلها.
كما عرفنا متى يصرحون بعقيدتهم ولمن.. لكننا، وكما قلنا سابقاً، أمام مراوغات زئبقية لا تعرف معنى للخجل؛ فأحدهم يكذب عليك أمامك دون أي شعور بالحياء، كما حدث ويحدث دائماً.
ووقوفاً أمام مراوغاتهم ومكرهم نورد أيضاً أقوالاً لعدد كبير من أئمتهم، تثبت كلها أنهم كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، لكن بعد أخذ فكرة عن معاجمهم، وما يسمونه شروحاً لمصطلحاتهم.
([1]) اليواقيت والجواهر، (ص:14- 19)، وقد حذفت منه كثيراً مما لا فائدة منه للبحث.
([2]) محمد العربي بن السائح الشرقي العمري نسبة، التجاني مشرباً، مغربي توفي سنة: (1309هـ)، وهو تلميذ أحمد التجاني وأحد خلفائه.
([3]) بغية المستفيد، (ص:18، 19، 20).
([4]) أبو بكر الشبلي حياته وآراؤه، (ص:5).