الأسس الضرورية لفقه واقعنا السياسي

كتاب الفقه السياسي

ينبثق الفقه السياسي أساساً من العقيدة الإسلامية، ومعززاً بالشعائر التعبدية، ومؤيداً بالقيم والأخلاق النبيلة. وهو يقوم على مجموعة من الأسس الضرورية لجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وهذه الأسس يعتمد بعضها على بعض وهي:

السنن الكونية أولا ً: فقه الواقـــع

ثانياً: فقه الموازنات

ثالثاً: فقه الأولويات

رابعاً: فقه التغيير أولاً: فقه الواقع

تعريفات:

الفقه لغة: مطلق الفهم. (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ) [هود:91] ، أي: لا نفهم كثيراً مما تقول، ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)([1]). أي: فهمه معناه.

الواقع: هو مجموعة الحقائق والسنن الكونية، ومنها الفطرة الإنسانية، وكلها محكمة، أي: لا تتبدل ولا تتحول. يضاف إلى الواقع كذلك كل ما يحدث من حوادث.

فقه الواقع: هو فهم ومعرفة الحقائق والسنن الكونية، والفطر الإنسانية، معرفة يقينية. لتساهم في مواكبة الواقع المعاصر ومعايشته على أكمل وجه، إذ أن الشريعة الإسلامية دعت إلى التفاعل مع السنن الكونية للإفادة منها، والحذر من مخاطرها، ضمن الثوابت، والأصول التي لا يعذر المسلم بالخروج عنها.

أهمية فقه الواقع: الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، بل هو المتفرد بالخلق دون غيره، ولا يسأل عما يفعل، فقد شــاءت الله تعالى أن يخلق هذا الكون بما فيه من أرض وسماوات وما بث فيهما من دابة، قال تعــالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ) [الشورى:29]. وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف:54]. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ): فيه مسألتان: الأولى: صدق الله في خبره فله الخلق وله الأمر خلقهم وأمرهم بما أحب.

وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) أي:له الملك والتصرف.

فالخلق: هو الكون بما فيه من جمادات وأحياء، وهو نتيجة لأمر الله تعالى بأن يكون، فكان. كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [النحل:40]. وفقه هذا النوع يسمى: (فقه الواقع) الكوني.

والأمر على عدة أحوال:

– أمر الله تعالى وكلمته التي بها خلق الجمادات والأحياء، كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [النحل:40]. )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ( [يس:82]. وهذا النوع من الأمر المتعلق بإيجاد المخلوقات، يسمى كذلك بـ (فقه الواقع) الكوني.

· أمر الله تعالى لتدبير الكون بما فيه من جمادات وأحياء:(إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) [يونس:3]. (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم:30]. وهذا الأمر هو السنن الكونية التي فطر الله تعالى الجمادات والأحياء عليها. كدوران الأرض حول الشمس، وإنزال الغيث، وتوسع الكون في الجمادات. وكغريزة التكاثر، والمأكل والمشرب، والنوم، والصحة والمرض، والتدين في الأحياء من البشر وأمثالهم. وهذا النوع يسمى كذلك بـ (فقه الواقع) الكوني.

· أمر الله تعالى الأحياء، ومنهم الإنس والجن بطاعته وعبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ( [الذاريات:56]. ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة:117]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:21]. وهذا الأمر، هو الأمر الشرعي، الذي تعبد الله به عباده، فأرسل لغايته الرسل ، وأنزل الشرائع والكتب, وهو ما يسمى بـ (فقه الشرع).

إذن هما سُنّتان حاكمتان: السنة الكونية (فقه الواقع) المتعلق بما نتج عن أمر الله من إيجاد الخلق ابتداءً، ثم تدبير شؤونهم ومعاشهم، وما يحدث لهم من حوادث. والسنة الشرعية (فقه الشرع) المتعلق بأمر الله لعباده بالطاعة والعبادة، وهي أوامره المتعلقة بالفعل والترك. فلكي يحيى الإنسان الحياة الطيبة عليه أن يعلم هاتين السنتين، ثم يعمل بمقتضاهما. ومن فرط في معرفة أحداهما أو تجاهلها أو ظن في نفسه معرفتها فقد ضل سواء السبيل، ومن ضل سواء السبيل انقلبت حياته: من نعمة إلى نقمة، ومن أمن إلى خوف، ومن سعة في الرزق إلى جوع وفقر، ومن خير إلى شر.

قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124]. وهذا الأمر مبين في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]. فالقول السديد (الصادق) بحاجة إلى سداد في معرفة الواقع، ولكي نحصل على الثمرات الواردة في الآية الكريمة، لا بد من اجتماع أمرين اثنين:

· معرفة الخلق والأمر، أي: الواقع والشرع.

· التقوى التي هي مقتضى تلك المعرفة.

وهاتان السنتان الحاكمتان (الخلق والأمر) مهمتان ومطلوبتان لإصدار الأحكام ومن ثم الأعمال، وخاصة لأهل العلم المفتين والقضاة والرعاة الحاكمين.

قال ابن القيم تحت عنوان: “تمكن الحاكم والمفتي بنوعين من الفهم”:

ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: إحداهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.

يتبع في الموضوع القادم…

النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.

——————-

(1) متفق عليه.

Scroll to Top