تبين لنا من الحلقة الأولى أن الإصلاح المنشود لا يتحقق إلا بتحقق أصله، وأصله هو تغيير ما بالأنفس. وأنه لا يكون من خلال الانشغال بفرعه المتمثل بمختلف صور الصراع مع الأنظمة القائمة سياسية واقتصادية وغيره.
وفي هذه الحلقة لا بد لنا من إضافة مهمة جداً ألا وهي التأكيد على واحدة من أهم مقاصد التشريع الإسلامي وهي (رفع الحرج عن العباد)، ومن صوره التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية وعدم الاستعجال في الأمر، فان عواقب الاستعجال فيه وضرره، لا يقل خطورة عن عواقب إهماله بالكلية أو نكرانه. لذا فان من التعقل وحسن التصور أن نطبق هذه القاعدة في الدعوة إلى الله لتطبيق أمره، لأن الاستعجال في الوصول إلى الأمر قبل أوانه، يعاقب الناس بحرمانه.
وعودة إلى المطالبة بالإصلاح وقمع الفساد، فقد أصبح ديدن الحراك الشعبي الإصلاحي وعلى رأسه الحركة الإسلامية الدعوة إلى محاسبة المفسدين وناهبي المال العام ممن لهم علاقة بالمؤسسات الحكومية ومختلف أجهزة النظام، وهذا الأمر يبدو للناظر في أول وهلة ايجابياً وله أولويته لما يصاحب هذه الدعوة من تزيين الكلام وتأويله بما يتفق مع رؤية الداعين للإصلاح. ففي الوقت الذي تستهدف حركة الإصلاح المفسدين داخل الدولة فقط، نراهم يهملون ويتناسون المطالبة بمحاسبة المفسدين ممن هم من حولهم وأقرب لهم اجتماعيا من أولئك مما هذا التصرف المخالف لمنهج الله في التغيير يثير الدهشة، وأن وراء الأكمة ما وراءها، أو ثمة خلل بيّن لديهم في مفهوم الإصلاح ومحاربة الفساد. ولكي ندرك حجم هذه الكارثة الكبيرة، سأضرب مثالا واقعياً نشرته صحيفة الرأي في أكثر من مرة في شهر أيار وشهر حزيران من عام 2012 مفاده، أن قيمة الفاقد من الكهرباء شهريا تبلغ حوالي (170ـ 180) مليون دينار. أي حوالي (2) مليار دينار سنوياً. أليس هذا الرقم مخيف جدا؟ أليس السارق الصغير في بيته أو شقته أو محله أو مكتبه أو جامعته، بفعله هذا كان سببا في العجز الذي أصاب شركة الكهرباء؟ ثم كان سببا آخر لقيام الحكومة برفع أسعار الكهرباء على بعض شرائح المجتمع وأصحاب بعض المهن؟ هذه السرقات المنسية تعتبر جريمة بحق الوطن والمواطن، لماذا لا تتوجه الحركات الإصلاحية بالقيام بحملة قوية توعوية تؤكد فيها على مدى خطورة هذا العمل والمفاسد الكبيرة التي من جرّائه ستصيب المواطن والوطن؟. لماذا فقط التركيز على محاربة المفسدين داخل الدولة، وترك من هم خارجها؟ ثم لماذا التركيز على محاربة مظاهر الفساد دون محاربة أصله المتمثل بإصلاح النفس؟ هل هو الجهل في السنن، ام ثمة أمر آخر؟.
يقول ابن تيمية رحمه الله: “وقد ذكرت في غير هذا الموضع، أن مصير الأمر إلى المُلوك ونوابهم من الولاة، والقضاة والأمراء، ليس لنقص فيهم فقط، بل لنقص في الراعي والرعية جميعاً، فإنه “كما تكونوا يولّ عليكم”، وقد قال الله تعالى: )وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ( [الأنعام:129]”([1]).
ويقول محب الدين الخطيب: “وقد يظن من لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطا فللبيئة التأثير في الحاكم، وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة، وهذا من معاني قول الله عز وجل: )إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ(“( [2]).
وعليه، ولكي نسرع من وتيرة الإصلاح وأن تكون لنا لا علينا، ومؤسسية لا فوضوية، يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلاح الرعية والانشغال بذلك، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لولاة الأمر بشروطه وضوابطه.
يتبع الحلقة (3) بإذن الله.
(1) “مجموع الفتاوى” (35/20).
(2) في التعليق على كتاب “العواصم من القواصم” (ص77).