عين العرب ستكون على مصر هذا الأسبوع، فعلى رغم كل أحداث الأسبوع الماضي السلبية، اتخذ القرار الصحيح بإجراء الانتخابات في موعدها، فهي فاتحة الاستقرار ودليل نجاح الثورة.
استقرار مصر يهم العرب، وهذا الاستقرار سيكون في أن يكتسح حزب ما الانتخابات القادمة، شرط أن يكون حكيماً بما فيه الكافية فيمسك العصا من منتصفها، فيقف في وجه الجيش وما تبقى من النظام القديم من دون الاصطدام بهم فيدفعهم إلى حماقة الانقلاب، ويُرضي في الوقت نفسه شباب الثورة فيحتويهم ويخفف من غلوائهم وطلباتهم التي لا تنتهي، ومن ثم يتلقى الدعم الواجب من أشقائه العرب بصفته حكومة مصر، ويعيد مصر إلى ملء موقعها الشاغر في عالم عربي ناهض.
هل هناك من يستطيع ذلك؟ كارثة إن لم يكن، فمصر مقبلة على كارثة حقيقية إن استمرت أحوالها المضطربة هكذا عاماً آخر، أقلها الإفلاس .. نعم ستفلس خزائنها وأرصدتها خلال أشهر، مثل اليونان وإيطاليا ولكن من دون حماية الاتحاد الأوروبي واليورو.
رغم كل عيوب المجلس العسكري وأخطائه منذ استلامه السلطة في شباط (فبراير) الماضي، فإن النظام الانتخابي الذي اعتمده ودافع عنه هو أفضل خدمة تاريخية لمصر في مرحلتها الانتقالية الحالية.
يتعرض هذا النظام لنقد من بعض الأحزاب والقوى في الداخل، وكذلك من الخارج، فهو متهم بمحاباة الأحزاب الكبرى وسيفرز غالبية منها في البرلمان المقبل، وسيهمش الأقليات والمرأة والأحزاب الصغرى.
الوقت ليس مناسباً للتركيز على مصالح الأقليات والمرأة وإنما إنقاذ مصر أولاً، فما حصل الأسبوع الماضي كشف بوضوح حالة الاستقطاب الحادة وعدم الثقة بين شباب الثورة من جهة وبين الجيش والأحزاب السياسية كافة من جهة أخرى مع العجز عن تقديم بديل ثالث.
فلقد انفجرت الأسبوع الماضي ثورة ثانية تريد أن تلغي ألف عام من هيمنة العسكر في مصر ونقل السلطة كاملة غير منقوصة إلى المدنيين وحتى قبل الانتخابات. رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان احتاج 8 سنوات من المكابدات المتبادلة والتفاوض والمد والجزر مع عسكر تركيا لتحقيق ذلك، بينما شباب الثورة في مصر يريدون تحقيق ذلك في «سبعة أيام».
الأحزاب المصرية مقبلة على انتخابات فلا تستطيع أن تصرخ فيهم إنكم مخطئون وتجرون مصر إلى المجهول. إنهم الثورة، والثورات لديها طريقتها الخاصة في التفكير، وحجتها القوية محاطة بعبارات رومانسية تحصنها من النقد (الطهارة، النزاهة، الاستبسال، الشهادة، العزوف، الإيثار) في مقابل «الجيش الذي لم يقل لا لمبارك» و»الأحزاب السياسية المتعطشة للسلطة والمتلهفة للانتخابات». كيف تكسب جدلاً مع منطق كهذا؟
لذلك يجب المضي بالانتخابات في موعدها ومن دون تغيير في قانونها الانتخابي، الذي وإن لم يفرز حزباً واحداً متغلباً فعلى الأقل سيفرز بضعة أحزاب كبرى وسطية تفهم بعضها البعض ومستعدة للتعاون في مرحلة مصر الانتقالية التي ستكون طويلة، ربما لعقد كامل ريثما يعاد بناء الجمهورية المصرية التي تشوهت وشاخت.
إن أسوأ ما يمكن أن تفرزه الانتخابات المصرية هو فسيفساء من الأحزاب الصغيرة المتباينة، تتناحر في ما بينها وتتبادل الاتهامات بينما يغلي الشارع ويتردى الاقتصاد لينقض الجيش في النهاية وتدخل مصر في دوامة عنف وقمع وفوضى.
هناك من يحلل أحداث ميدان التحرير الأسبوع الماضي بالسؤال الشهير «ابحث عن المستفيد» ومن المستفيد؟ إنهم أولئك الذين يخشون اكتساح «الإخوان» للانتخابات. إنها الأحزاب العلمانية واليسارية التي لم تستعد للانتخابات أو لا تتوقع نتائج طيبة، أو إنهم فلول النظام القديم. كثير من الكتاب والسياسيين المصريين يتحدثون عن «فريق ثالث» أو «الأيدي الخبيثة» كما سماهم المجلس العسكري، ولكن لا أحد يتقدم بالشهادة أو صورة تثبت وجود هؤلاء الذين باتوا مثل «العصابات المسلحة» التي يتحدث عنها النظام السوري.
إذا خرجت مصر سليمة من أحداث هذا الأسبوع، وأجريت الانتخابات بعد الغد في موعدها واكتملت دورتها الانتخابية الطويلة وهو الأفضل، فإن التحديات التي تنتظر الحكومة المنتخبة جمّة، وحبذا ألا يكون من بينها التعامل مع تظاهرات مليونية كل بضعة أسابيع في ميدان التحرير. ستكون قضية «دور الجيش في الحياة السياسية» التي ثار الشباب بسببها في صدارة هذه التحديات، ولكن تأتي معها كل تلك القضايا «الملحة» الأخرى التي ثار أيضاً بسببها الشعب المصري في 25 يناير فمن أين تبدأ؟ البطالة أم الفساد أم جذب الاستثمارات الأجنبية التي انخفضت بنسبة 90 في المئة أم السياحة التي قضت أو كادت؟
الشباب قرر اختيار أصعبها وهو مواجهة الجيش، وإلغاء دوره في الحياة السياسية وإعادته إلى ثكناته وتسليم السلطة تماماً للمدنيين. سيحصل هذا في نهاية المطاف، فهذه قوة التاريخ، ولكن لا يمكن أن يُلغى تاريخ ممتد لألف عام في أسبوع واحد. الجيش المصري «حاكم مصر» يحمل موروثاً قديماً بدأه عسكر من المماليك، عجز العثمانيون عن إلغاء دورهم، واضطر محمد علي إلى «جزرهم» في مذبحة جماعية، ولكنهم عادوا بعد ثورة يوليو. تمددوا إلى كل الدولة، سياسة واقتصاداً، ثم أعمالاً خاصة وتجارة. في يوم من الأيام في زمن ما قبل ثورة 25 يناير عندما كانت الديموقراطية حلماً بعيد المنال، كان يقال لهم من باب تأليف القلوب إن الجيش سيكون هو الحامي لها والضامن لتداول السلطة، واليوم ينتفض شاب في ميدان التحرير ويصرخ في وجه المشير قائلاً له: ارحل.
رئيس الوزراء القادم سينشغل هو الآخر بالمطالب نفسها، ولكنه في الغالب يفضل أن يستعير من أردوغان دفتر ملاحظاته في كيفية التعامل مع الجيش.
نقلا عن الحياة اللندنية