عادت أجواء الثورة «الجذرية» إلى ميدان التحرير، بعد «ميني» مظاهرات واعتصامات طيلة الأشهر الماضية التي أعقبت تولي عصام شرف زمام الحكومة، انطلاقا من ميدان التحرير.
ها هو الميدان الذي هتف باسم الجيش والمشير والمجلس العسكري قبل عدة أشهر، يعود ليجعل العسكر هم العدو، والجيش محل شك وارتياب، وعصام شرف، أحمد نظيف جديدا، والمشير طنطاوي، ومعه ثلة الجنرالات، حسني مبارك جديدا ومعه الحزب الوطني المقبور.
إنها ثورة على الثورة، وإلغاء لكل ما جرى من سياسات طيلة الأشهر الماضية، وعودة من جديد إلى «الحبيب الأول» وهو الميدان، ففي الميدان يكرم المرء أو يهان…
شطب الكلام السياسي كله، وأصبح الحديث عن الانتخابات والقوائم النسبية والفردية، ووثيقة المبادئ الدستورية، التي يفترض أنها كانت سبب الاحتجاج، أصبح هذا كله مجرد تفاصيل صغيرة لا تصمد أمام «القضية» الثورية، ومطلب الكرامة، وحماية الثورة… وغير ذلك من الكلام الملحمي الكبير. والخطير.
أصبح الحديث الآن عن أن الشرطة آذت مجموعة من أهالي «الشهداء» وبعض الكسحى والمرضى، وهو ما صعد الأمور إلى هذه الدرجة، وقيل، وهذه سمعتها في اتصالات على قناة «الجزيرة مباشر»، إن الشرطة بريئة هذه المرة، وإنها ضحية للجيش وشرطته العسكرية، وهي التي تدفع بها إلى مواجهة الشعب، وهو عكس الكلام الذي كان يقال إبان الثورة على نظام مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي، حيث كانت الشرطة هي الشريرة والجيش هو الطيب.
أحد رموز ميدان التحرير، ممن قيل لنا في بداية السنة إنهم يمثلون الجيل الجديد، والواعي، من شباب مصر، عاد مرة أخرى للظهور والنجومية، بعد أن طمره شباب «الإخوان» والسلفيين ومظاهرات الفئات، عاد بعد أن عمت الشعارات الثورية الكبيرة التي تجمع «جبهويا» المتناقضين والمتناقضات على التفاصيل.
عاد عضو ائتلاف شباب الثورة، شادي الغزالي حرب، ليقول لقناة «الجزيرة» بعد اشتعال الميدان مجددا: «إن المشهد الراهن يعيد مصر إلى صبيحة يوم 25 يناير»، مشيرا إلى أن «أولوية المطالب الآن إقالة الحكومة فورا وتشكيل حكومة إنقاذ وطني بصلاحيات واسعة تنفذ أجندة ثورية».
ومثله دعا القيادي الأصولي الشهير، حازم أبو إسماعيل، وهو مرشح رئاسي أيضا، ليدعو إلى «الاعتصام» في الميدان، بعد أن كانت البداية مجرد مظاهرة ووقفة احتجاج، يوم الجمعة، كما قال «الإخوان» لنا.
حسنا تذكروا اسم شادي الغزالي حرب، واقرأوا معي السطور التالية، فقد سبق أن علق كاتب هذه الكلمات في شهر مارس (آذار) الماضي تحديدا، في اليوم الرابع منه، على مطالب ثوار التحرير بإقالة حكومة أحمد شفيق، وكأن الحديث عن ما يجري الآن ضد حكومة شرف! كان مما ذكر حينه:
«استجاب المجلس العسكري الحاكم في مصر لمطالب الثوار برحيل أحمد شفيق وحكومته، وهو مطلب ضمن عدة مطالب أخرى لمن يهددون دوما بميدان التحرير».
الاحتقان المصري لم يتنفس، على الرغم من رحيل رئيس الجمهورية، وسجن الرموز المكروهة شعبيا بسبب الفساد، وعلى الرغم من التعهد الواضح بأن حكم الجيش مؤقت بزمن معين ومعلن، وعلى الرغم من تعديل الدستور؛ خصوصا شروط الترشح للرئاسة، وعلى الرغم من حملات الإدانة لكل المرحلة السابقة، وعلى الرغم من الغزل الدائم من العسكر للشباب، وعلى الرغم من أن مصر دخلت مرحلة الخطر اقتصاديا وسياسيا، وهي بالفعل قد خسرت كثيرا؛ خصوصا في قطاع السياحة المهم (البرازيل حذرت من ضرر التيه السياسي على الاقتصاد المصري). على الرغم من هذا كله، فإن نغمة التصعيد ما زالت هي الحاكمة، وكل يوم يتم تحديد عنوان ثوري جديد.
الغريب أن أحمد شفيق حظي بتقدير خاص من قبل المعارضين أول ما تولى الحكومة واعتبر الوجه النظيف للسلطة، وقام بـ«اجتثاث» رجال الأعمال من حكومته، لكن كل هذه الأمور اختلفت فورا بعد تحقيق المطلب الأعلى وهو تنحي الرئيس مبارك وملاحقة رموزه، وصار مرمى النيران هو أحمد شفيق نفسه، باعتباره من النظام «البائد»، وطلب الثوار تعيين رجل جديد مرضي عنه من قبلهم هو عصام شرف وزير النقل الأسبق في حكومة أحمد نظيف!
حسب الـ«بي بي سي»، فإن هذا القرار لاقى مشاعر الفرح لدى شبان الاحتجاجات، وتعليقا على القرار قال شادي الغزالي حرب (هو نفسه الذي تحدث قبل أشهر قليلة عن إقالة حكومة شفيق) أحد قيادات ائتلاف شباب الثورة: «الحمد لله، نحن سعداء، هذا القرار استجابة لمطلب الثورة».
هل يكفي هذا القرار، وهل سيستمر هذا الفرح لدى الشباب؟!
في مثل هذه الأجواء تصبح الثورة هي الهدف بذاتها، وليس الإصلاح أو التغيير، الثورة جائعة تريد ما يسد رمقها، وينقلها من حالة التحفز الدائم إلى حالة الاطمئنان والاسترخاء والحياة الطبيعية.
في هذه الأجواء، لا يصبح السؤال: هل أحمد شفيق رئيس حكومة جيد أم سيئ؟ هل المسؤول الفلاني مستقيم أم فاسد؟ هل هذا الإجراء مفيد أم مدمر؟ بل يصبح الأمر متى ينتهي هذا المزاج الثوري الحاد؟
حتى الجيش، لا يدرى مدى قدرته على مواكبة هذه الرغبات الثورية المستمرة دوما، في حالة انعقاد مثلما هو المجلس العسكري الحاكم. وربما يصل الاحتجاج إلى المشير طنطاوي نفسه، فهو جزء جوهري من مرحلة مبارك أيضا، أكثر تجذرا من شفيق أو سليمان.. من يدري.. ربما».
وها نحن نرى، بأسرع مما يتوقع، كيف عاد المجلس العسكري ليحل محل حسني مبارك ونظامه في الشيطنة الذهنية، وتحولت إليه ألسنة الثوار ومشاعر الغضب الشعبية، وعاد الميدان لينفجر في وجوه الجميع.
هناك حالة «إدمان ثوري» في مصر، وعلى الرغم من أن المشكلات ضخمة وهائلة وشبه مستعصية في مصر، ديون قاسية قد تعرض مصر للإفلاس، وهشاشة أمنية، وانفلات فئوي، وضعف سياسي، على الرغم من هذا كله، فإن هناك من لا يشعر بهذا الأمر.
قال الكاتب المصري الشهير أحمد رجب في زاويته «نصف كلمة»، في جريدة «الأخبار» المصرية، قبل أيام، إن حال المصريين الذين يتلهون بجدالات جوفاء حول الانتخابات والسياسات والوثائق الدستورية، يشبه حال سكان بيزنطة التي كان أهلها يتجادلون في جنس الملائكة، والأعداء على الأبواب!
هل يعني هذا كله الدفاع عن سياسات المجلس العسكري أو حكومة شرف أو القول إن الناس ليس لها حق في الاحتجاج والمطالبات؟
أبدا، فأداء العسكر السياسي كان أداء ضعيفا ومرتبكا، وبطيئا، وغير حاسم، وكذلك حكومة شرف، وقد كان بالإمكان أحسن مما كان كثيرا.
لكن مرة أخرى، هل سيخرج المزاج الذي حرك شبان التحرير ورجاله ونساءه من حالة التحليق الثوري، حتى لو كان أداء المجلس العسكري أفضل سياسيا؟!
هناك وهم خطير بأن الحل في الميدان، وأن الميدان هو «المهدي المنتظر» الذي سيحل كل المشكلات بمجرد المكوث فيه ورفع الحناجر بالهتافات، في حين أن ثمة مشكلات لا تحل فقط بالهتاف والاعتصام، وإلا لتحولت ميادين الأرض كلها إلى ساحات اعتصام خالدة وأبدية.
بقيت هنا مفارقة عجيبة، وهي أن «الإخوان» الذين دعوا لمناكفة العسكر على خلفية وثيقة السلمي الدستورية، الجمعة الماضية، هم أكبر الخاسرين من «ديمومة» الثورة في الميادين، فهم في النهاية يريدون وراثة «دولة» موجودة عقب المجلس العسكري، وليس أنقاض دولة ومجتمع!
بكل حال، متى سنخرج كلنا من هذه الدائرة المغلقة والمهلكة؟ لنبدأ العمل في السياسة والإدارة وشؤون الناس الحقيقية، ونضع ميدان التحرير في أرشيف الذاكرة، لا أن نحوله إلى مطاف دائم، ومقدس…
تلك هي المسألة. في مصر، وغير مصر.
نقلا عن الشرق الأوسط