بماذا نسمي المتظاهرين الذين رفعوا لافتات في أنحاء سوريا، وقبلها في ليبيا، تنادي جهارا بالتدخل الدولي لإسقاط النظام؟ وآلاف المتظاهرين الذين حرقوا أعلام روسيا والصين لأنها تقف ضد دعوة التدخل؟ هل هم خونة؟ لا وطنيون؟
لا.. هم أكثر وطنية لأنهم على خط النار في مواجهة لا مثيل لها في تاريخنا المعاصر. هم أكثر وعيا عندما هبوا لإسقاط النظام من كل المثقفين الحريصين على اللغة أكثر من حسم المواجهة. ملاحظتي أننا أمام إعادة تعريف المفاهيم؛ الوطني والأخلاقي وكل ما تم تسويقه فكريا منذ زمن محاربة الاستعمار في القرن الماضي. دعوة التدخل الدولي كانت تصنف أكبر الجرائم في حق الوطن، ولا ينادي بها إلا خائن. اليوم علينا أن نميز ونسمع التفاصيل. لصامويل جونسون جملته الشهيرة وهي أن «الوطنية ملجأ الأوغاد»، يعني بها أن هناك من يرفع شعار الوطنية لأغراضه الخاصة وليس للوطن حقا. فالنجدة الخارجية محرمة في إطار الخلافات الداخلية لكنها قد تكون مبررة ومباحة لشعب هب ضد نظام أوغل في القمع والدم ويحتمي وراء الوطنية.
في المعارضة؛ في الداخل والخارج، شخصيات محترمة ضد التدخل مهما كان الألم. وهم من المثقفين الكارهين للنظام السوري.. يريدون إسقاطه ولو بالأظافر الوطنية، لكن ليس بحاملة الطائرات «شارل ديغول»، أو بسلاح الجو الملكي البريطاني. أما الذين يتظاهرون في الشارع ويضحون بأغلى ما عندهم؛ أرواحهم وأرواح أولادهم، يجدون أن إسقاط نظام مدجج بالسلاح لا يتورع عن ارتكاب كل الجرائم، أمر مستحيل من خلال المظاهرات، ويعتقدون أن النظام يستطيع البقاء مائة سنة أخرى في ظل هذه المعادلة. هؤلاء الناس الذين ينشدون الحماية الدولية ليسوا جبناء ولا تنقصهم الوطنية.. أناس حسموا أمرهم وقرروا المواجهة ويريدون تصحيح المعادلة في وجه نظام مدعوم من إيران وحزب الله وروسيا، وأرمادا من جيش وأمن ومخابرات هائلة.
في الساحة الثقافية، نتجادل لأننا أمام مشهد غير مألوف.. بعضنا أفزعهم النموذج الثوري الليبي، مثل الأستاذ السيد ياسين في مقاله بجريدة «الحياة».. يتفهم الثورة لكنه يعترض على الاستعانة بحلف الناتو الغربي لإسقاط نظام القذافي. مثله سوريون معارضون وقعوا على وثيقة ترفض التدخل الدولي. لكن هل يوجد خيار بين إسقاط النظام داخليا وبين إسقاطه بعون خارجي؟ لو وجد الاختيار لما رفع أحد من المتظاهرين في دير الزور أو اللاذقية أو حماه لافتة تدعو للتدخل الدولي، لكن الحقيقة لا يوجد خيار. السوريون المنتفضون عاشوا معظم حياتهم تحت هذا النظام قسرا، بالآلة الحديدية. لقد أبيد في حماه أكثر من ثلاثين ألفا ثم عاش أهلها ثلاثين عاما بعدها مقموعين. في ليبيا، الناس عاشت مقهورة مقموعة 42 عاما، حكمهم نظام قاس ومجنون. لم يصمت الناس هناك حبا أو تراضيا، بل خوفا. والخطأ الفظيع الذي يقع فيه المنظرون هو المساواة بين المعاناة في مصر وليبيا مثلا. والخطأ الآخر استخدام الثورة المصرية مقياسا لثورات الآخرين.. ثورة مصر مختلفة، فالجيش لم يقف مع النظام السياسي، بل انقض عليه لأنه مؤسسة مستقلة، بخلاف سوريا وليبيا التي انقض فيها الجيش على الناس.
ولا أود أن أكرر حديثي في مقال سابق عن التدخلات الدولية المبررة، إلا أن رفض التدخل الدولي لإسقاط الديكتاتوريات نظرية تصلح في الجمهوريات الديمقراطية، حيث يحتكم الناس للصندوق، وفي المجتمعات التي سطوة أجهزة الدولة فيها محدودة.
لقد تغيرت الشعوب العربية، ولم تعد تبالي كثيرا بزخرف الكلام أمام تحقيق مطالبها بالحرية والكرامة. في الماضي كانت الشعوب مستعدة أن ترفع على أكتافها قيادات وطنية من أجل طرد الأجنبي، أما اليوم فهي مستعدة لاستقبال الأجنبي لطرد مدعي الوطنية مهما كلف الثمن. هذه ليست نظريات في علوم السياسة، بل ردود فعل غريزية. والناس تدرك عن وعي أن أي استنجاد دولي يتحول لاحقا إلى استعمار ستحاربه بشراسة وستنتصر عليه كما حاربت من سبقه.
الآن، لم يعد أمام الأنظمة المحاصرة سوى الترويج لرفض التدخل الدولي وتخوين من يدعو إليه لأنها تعرف أن هذه ورقتها الأخيرة.. دون تدخل دولي ستعيش دهرا جاثمة على صدر شعبها. غدا سأناقش أهمية التدخل الدولي عبر الأمم المتحدة في مرحلة ما بعد إسقاط النظام.