المتابع للحراك الثوري السوري لا يسعه سوى ملاحظة مدى مبالغة المعارضة السورية في “وطنيتها” و تماهي البعض من وجوهها مع النظام الذي يعارضونه، بحجة الوطنية و رفض التدخل الخارجي بأي شكل كان، في حين تبدو هذه المعارضة متخلفة عن حركة الشارع و عن تضحياته الجليلة.
انطلقت الثورة في منتصف آذار، و حتى هذه الساعة، لا يوجد رمز، ولا وجوه معروفة و متفق عليها لهذه الانتفاضة! هذا يعني انعدام اﻷفق السياسي أمام المنتفضين، كأن المعارضة التي “تعايشت” مع النظام ﻷربعة عقود، يعزّ عليها أن تتركه لمصيره المشؤوم. بعض المعارضين يتحدث، كالحالم، برمزية مفرطة “منتظراً أن يستعيد النظام عقله أو أن يتمكن العقلاء من أهل السلطة من استدراك اﻷمور”. ٳذا كان هذا الخطاب الطوباوي مفهوماً من قبل من هم مُهددون في الداخل، فٳنه يبدو سريالياً حين ينطق به من هم في الخارج.
أول مهمات من يتنطع ليكون معارضاً أن يكون لديه “ما يعرضه” أمام الشعب الثائر وأن يدرك مع أي نظام يتعامل. حينها قد يستنتج المعارض أن نظاماً يقتل شعبه منذ عقود، يبيع الأوطان و يتفاهم مع العدو و مع الغرباء في حين يرفض سماع نداءات استغاثة شعبه المذبوح يومياً منذ خمسة شهور ونيف، هو نظام لا عقلاء فيه، و لا خير يرتجى منه.
عجز المعارضة السورية عن الاتفاق على هيئة تمثيلية أو تنفيذية بعد اندلاع الثورة بخمسة شهور يدل على عجز هذه المعارضة عن الارتقاء ٳلى مستوى التطلعات و التضحيات التي يقدمها الشعب السوري. الثائرون في الشوارع بدأ صبرهم ينفذ، فقام بعضهم بنشر لائحة ﻷسماء معارضين شرفاء، واضعين المعارضة أمام مسؤولياتها و مظهرين عجزها عن الارتقاء ٳلى مستوى الحدث. قامت قيامة البعض ولم تقعد و لسان حالهم يقول: ” هذه لعمري مؤامرة وراءها مندسون، هدفهم مصادرة قرار الداخل”.
ٳن كان مفهوماً “تنصل” بعض معارضي الداخل من هذه القائمة خوفاً على حياتهم، فليس مفهوماً تلكؤ معارضي الخارج في التنطع لحمل عبء تمثيل الثورة، ٳلا، اللهم، ٳن كانوا يخافون بطش النظام بهم في المهاجر، أو بطشه بأهلهم في الداخل. ليس صدفة اغتيال شقيق المعارض “هيثم المناع” برصاصة في الفم و أخذ أشقاء الآخرين و أطفالهم رهائن.
معارضو الداخل ينقسمون، عموماً، لقسمين، معارضة “حبّابة” تتحدث بالرموز و “تتساكن” مع النظام مكرهة، وأخرى اختارت التواري عن اﻷنظار خوف الاغتيال أو التعذيب.
نشر أسماء معارضي الداخل يعني تعريضهم لخطر الموت و يفرض عليهم ٳما التنصل علناً من أي دور قيادي، أو مواصلة الاختباء انتظارا ﻷوضاع أفضل، أو الاثنين معاً. يبقى أمام هؤلاء و منهم “مانديلا العرب” رياض الترك، رياض سيف و سيدتا الشام سهير اﻷتاسي و رزان زيتونة و غيرهم كثر، خيار آخر هو وضع الدول التي تنتقد النظام أمام مسؤولياتها و ذلك باللجوء ٳلى سفارات تلك الدول، التي ستكون ملزمة حينها بحماية أرواحهم و بتسهيل خروجهم من سوريا ٳن أرادوا. هكذا فعل المنتفضون من دول أوربا الشرقية وهو ما ساهم في انهيار اﻷنظمة الشمولية في حلف وارسو السابق.
يبقى أن نتساءل ٳن كانت المعارضة السورية تريد ،فعلا لا قولاً، ٳسقاط النظام و المساهمة في بناء دولة القانون و إن كانت مستعدة لتحمل مسؤولياتها أمام شعبها، أم أنها تفضل البكاء على شاشات التلفاز و الاكتفاء “بالردح” دون الانتقال إلى مرحلة الفعل و دون أن تقدم نظرة متكاملة لمستقبل سوريا.
على سبيل المثال، لا أحد يعرف موقف هذه المعارضة من العروبة، المفروضة قسراً منذ 1958 ولا من مستقبل التعاون اﻹقليمي ومن العلاقة مع الجوار. ما موقف المعارضة من الغرب و من ٳسرائيل. أهم من كل ذلك ما موقف هذه المعارضة من المسألة الطائفية، من دولة القانون و من حقوق اﻹنسان، بمن فيهم غير العربي و غير المسلم السني؟
حتى الآن، “يحتكر” النطق بلسان الثورة السورية المباركة صفحة على الفيسبوك، مجهولة المصدر و الدوافع، لا أحد يعلم من يقرر نشر موادها و لا تسميات جمعها.
على كثرة الجمع منذ بداية الثورة، من جمعة “الحرائر” ٳلى جمعة “صالح العلي” و حتى “حماة الديار” الذين لا يحمون سوى النظام. مع ذلك، لم يجد القائمون على هذه الصفحة متسعا لجمعة باسم سيد الثورة السورية الكبرى دون منازع، سلطان باشا اﻷطرش! هل هذا لتجنب عبارته الشهيرة “الدين لله و الوطن للجميع”. هذه العبارة التي أسست لاستقلال و وحدة الوطن السوري، والتي تليق بأن تكون شعاراً لسوريا المستقبل. هذه العبارة تغيب تماماً عن شعارات الثورة لسبب نجهله. أتكون الثورة السورية ذات بعد طائفي؟ هل هي ثورة اﻷغلبيّة السنية ضد تحالف اﻷقليات الذي تقوده الطائفة العلوية؟ هل الهدف النهائي هو أن تحل دكتاتورية اﻷغلبيّة محل استبداد اﻷقلية؟ أن يتغير الطاغية و يبقى الطغيان؟
حراك المعارضة السورية يبدو محكوماً برفض التدخل الخارجي، و هو لعمري هدف نبيل في حد ذاته. لكن، لماذا ٳذاً نشر فظائع النظام على الانترنت و التلفاز؟ هل من يضحي بحياته ﻹيصال ما يحدث في سوريا للعالم الخارجي، يخاطر بنفسه فقط “لتسويد وجه” النظام؟ ماذا كان سيفعل النظام ٳن كان متأكداً أن لا تدخل خارجي ممكن و أن لا شهود على جرائمه؟ الحمويون لديهم خبرة جيدة في هذا الموضوع.
ما رأي المعارضة السورية حين ترى الجماهير تتظاهر ضد النظام وهي ترفع العلم الذي فرضه حافظ اﻷسد “نكاية” بأنور السادات بعد كامب ديفيد، ثم تدعو “ﻹعدام” الرئيس؟
ماذا لو غاب بشار اﻷسد عن الساحة أو اغتيل، هل هذا سوف يكفي لوأد الحراك الشعبي؟ ثم أي نظام سيحل محل السلطة اﻷسدية ٳن كانت بداية هذا النظام هي تجاوز دولة القانون و القبول باﻹعدام دون محاكمة؟ هل بشار يستحق اﻹعدام و هو أشبه ما يكون “بالناطق الرسمي” باسم العصابة الحاكمة؟ النظام قادر على الاستمرار حتى بدون بشار، فهل نكتفي بٳعدام وجه النظام و نقبل بدوام الطغيان ولكن بأسماء أخرى؟
المعارضة ترفض التدخل الخارجي و لو لحماية المدنين الذين يصرخون طالبين النجدة و لا تتفق على الالتفاف حول رموز وطنية لا غبار عليها، مع وفرة هذه الرموز و مناقبيتها، في النهاية تختار هذه المعارضة أن تجتمع حصراً في تركيا! هذه التصرفات تبدو غير مفهومة. لم لا تجتمع المعارضة في الأردن أو تونس مثلاً؟ إن لم تحصل رموزها على تأشيرات لأوربا أو خشيت سطوة أصدقاء النظام في لبنان.
هل تأمل المعارضة بحدوث انقلاب من داخل النظام؟ أن يقوم ضباط من الطائفة العلوية التي تتحكم بالجيش بوضع حد لحكم عائلة اﻷسد لتجنيب البلاد شر الحرب اﻷهلية؟ كلنا نأمل أن يقتدي الجيش السوري بنظيره المصري، لكن هل هذا ممكن؟ الجيش السوري كان عليه أن ينقلب على نظام اﻷسد و البعث منذ ضياع الجولان، بدلاً من ذلك أصبح وزير دفاع النكسة رئيساً.
الجيش السوري شارك “ببسالة” في سحق المقاومة الوطنية اللبنانية و تلك الفلسطينية و أتبعها “بمآثره” في حماة، والتي يكررها اليوم على امتداد الوطن السوري. ضبّاطه لم يجدوا غضاضة في المشاركة بحفر الباطن تاركين الجولان بعهدة “العدو” اﻹسرائيلي. الجيش السوري يبدو سائراً على درب كتائب ألقذافي و جيش صدام. انتظار الخلاص على يد هكذا جيش يبدو كأمل إبليس في الجنة. المتظاهرون “فهموها” قبل المعارضين بزمان فصرخوا “الجيش السوري خاين”.
“كتائب الأسد” تتصرف كجيش احتلال بكل معنى الكلمة، حتى السيدة كلينتون تطالب “بحق تقرير المصير للسورين” أي بأكثر مما يطلب العالم للفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، ثم يأتي معارضون “لطفاء” ليقترحوا التقاء المعارضين في قلب دمشق، في 16 أيلول، أي بعد انتهاء المهلة الروسية للنظام بأسبوع…أي معارض جدي “غير انتحاري” سيجرؤ على التصريح بمكنونات نفسه و يطلب من الأسد التنحي علناً أو سينادي بمحاكمة الرئيس، ناهيك بإعدامه، و هو في ظل حراب جند الأسد “وبحراسة الشبيحة”. هل تكون هذه مناورة من المعارضة “الحبّابة” لمنح مهلة جديدة للنظام لكي يعيد إنتاج نفسه بشكل جديد و ملطف. المحاولة السابقة لاجتماع المعارضة في القابون شمال دمشق كلفت السوريين خمسة عشر شهيداً، فكم روحاً بريئة ستزهق، هذه المرة، لمجرد محاولة الاجتماع في الداخل.
من جهة أخرى، المعارضة الرافضة لأي تدخل خارجي لا تجد غضاضة في تثمين الموقف التركي “الداعم للشعب السوري” كأن اردوغان من مواليد حمص أو حماة وكأن لا مطامع إقليمية تركية في الأراضي و المياه السورية. تنسى هذه المعارضة مدى استفادة تركيا من النظام الأسدي و عدم رغبتها في قيام ديموقراطية أصيلة في بلاد الشام ستتعامل معها بنديّة. تركيا ترغب على ما يبدو “بتجميل النظام” لا بإسقاطه.
المعارضة الرافضة للاستعانة بالغريب، يبدو أنها لا تعتبر دعم حزب الله وإيران للنظام ولا الأسلحة الواردة من إيران و روسيا لقتل المتظاهرين، تدخلاً خارجياً.
أيضاً، للمعارضة السورية “شبّيحتها” الذين يرمون من يختلف معهم بالوهن أو بالعمالة و يطلقون التهديدات “لمن لا يعرف كيف يعارض”.
معارضون آخرون يستعيرون اللغة الخشبية للنظام و يتحدثون عن “داخل” طهراني حتماً و “خارج” مشكوك في وطنيته وولائه للثورة. الخارج، البعيد نسبياً عن سطوة النظام، لا يحق له الحديث باسم الشعب ولا الدفاع عن مطالبه لأنه “لم يعانِ و لم يدخل سجون النظام”. كأن السوريين في الخارج غادروا بلادهم “بكيفهم” لا هرباً من قمع السلطة و من إفقارها المتعمد للنخب و تهجيرها للكفاءات. على هذا المنوال، ومع اعتبار كل الفروق التاريخية، لم يكن يحق “لديغول” الحديث باسم فرنسا التي كانت محتلة من قبل النازي، لأنه لم يبق في “الداخل و يموت، بطلاً، بحراب الجيش الغازي…”.
ما دامت الثورة السورية تطالب بالديمقراطية فلم لا تبدأ بتطبيقها منذ الآن و تطرح السؤال على صفحتها في الانترنت؟ لماذا لا تستفتي الشعب السوري مباشرة في المواضيع التي تهمه، مثل المجلس الوطني، الحماية الدولية، محاكمة الرئيس و غيرها، لكي يقول الشعب كلمته. صفحة الثورة السورية التي تغطي مشكورة كل المظاهرات ضد النظام، حتى في تورنتو، ألا تقدر أن تستفتي متابعيها في هذه المسائل التي تخصهم؟
الشعب السوري يواجه بشجاعة فائقة أحد أعتى الأنظمة القمعية في التاريخ، يقابل بصدوره العارية القنابل و الرصاص، و أخيراً الطائرات. الثورة السورية تتحول تدريجياً إلى مقاومة سلمية لجيش أشبه ما يكون بجيش احتلال دون سند أو نصير. هذه الثورة تحتاج للالتفاف حول معارضة شجاعة، مسؤولة وجدية، قادرة على الارتقاء إلى مستوى تضحيات شعبها العظيم.
الأمل، كل الأمل، أن لا يأتي يوم نقول فيه “أطهر ثورة لأشجع الشعوب، و أردأ معارضة”.