لم تطالب الجماهير بإسقاط النظام عندما انتفضت، كانت تطلب محاسبة من أساء إليها وأهانها، منذ تاريخ 15 آذار2011 منح بشار الأسد الفرصة تلو الفرصة من قبل الجماهير السورية لكي يتدارك الأمر ويوقف الفساد والاستبداد، ومع أنهما كانا يزدادان بجرعات متسارعة، بقي حسن الظن قائماً، والصبر والأمل غير محدودين، وحاول السوريون دوماً أن يفصلوه عن البيئة الوحشية التي نشأ فيها، وأن يربطوه مع قيم الحداثة التي من المفترض أن يكون قد احتك بها في الغرب، لكن بشاراً الذي تخرج من مدرسة دموية اختار الأحداث ليبرهن انتماءه الأصيل إلى الوحشية الأسدية، وأنه لا يختلف عن رعيل القتلة الأول في القتل بلا رحمة والانتقام من أي معارضة بأبشع طرق القتل والتعذيب التي وصلت إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ البشر والمتمثل في اعتقال وتعذيب الأطفال حتى الموت!
خلال عشر سنوات ونيف انتظر السوريون الوعود الجزلة التي قدمها بشار الأسد، لكنه أصر على تشكيل بنية أوليجاركية قذرة حوله، لا يهمها سوى الاستئثار بالسلطة ونهب البلاد والعباد، مما جعل الفساد يستشري في كل مفاصل الدولة والمجتمع، وأصبح سمة العلاقة بين الدولة والمواطنين، وبين المواطنين أنفسهم، في ظل هيمنة أمنية تحصي على الناس أنفاسهم، وتتدخل في كل أوجه الحياة اليومية، وجميع النشاطات السكانية، في هذه الظروف القاسية المديدة، بقي سيف السلطة مشرعاً يتعامل بقسوة مع أي بادرة رفض مهما كانت صغيرة وهامشية، ولعل أبلغ وجوهه تمثلت في اعتقال أطفال درعا وتعذيبهم بوحشية، وإهانة ذويهم، محاسبة على بضع كلمات خطوها على جدار مدرسة، الأمر الذي جعل الانتفاض والاحتجاج والمواجهة بالرفض حتميات لا بد منها أمام شعب وجد أن الأفاق قد انسدت في وجهه، وبدلاً من أن يذعن هذا الرئيس للجماهير التي صبرت على مثالبه التي لا تحصى ولا تعد، واجهها بعنجهية وعنف شديدين، فقتل واعتقل وعذب المزيد باستمرار، قام بما لا يترك مجالاً لتقبل المزيد منه، حينها طالب الشعب بإسقاطه وإسقاط النظام، ونزع الشرعية عن حكم لم يكن شرعياً في يوم من الأيام.
بدد بشار الأسد الفرص لعشر سنوات خلت، وبدد الفرصة العظيمة التي أتيحت له في منعطف تاريخي، بأن ينحاز للجماهير ويتحول إلى (مانديلا) سوري، ربما لأنه لا يستطيع بسبب نشأته في ظل ثقافة إجرامية، والطبع يغلب التطبع، بدد كل فرص الداخل باستكبار ووحشية لا متناهية ومستمرة إلى اليوم، ولم يكتف بذلك، بل إنه ماض في تبديد فرص الخارج التي منحت له دون غيره بكرم يكشف زيف ممانعته، وما زال يقتل ويذبح بلا حساب وغير آبه لعقاب قد يلحق به، وهذا السلوك في ظل ما يحدث في عالمنا اليوم يدل على بوضوح على منهجية مزدوجة، فمن جهة هو ماض في سمسرته مع أطراف النظام العالمي، فيقدم لهم بالجملة ما كان يقدمه طوال الوقت بالتقسيط، وهو ما يفسر التردد في الكثير من المواقف الدولية، والسقف المنضبط لسياساتها، أو أنه يدرك أن أي تعديل على بنية النظام سيعجل برحيله وزواله.
ما من شك بأن بشار قد فقد جزءاً كبيراً من قدرته على أسر الجماهير في حظيرة النظام، وإن كان لا زال يتوهم إمكانية أن يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل منتصف آذار /مارس المنصرم. فتلك أمنية دونها حلم إبليس بالجنة، لم يبق لدى هذه السلطة أية أوراق تستخدمها من أجل بقائها سوى المغامرة بالوطن السوري، وهو ماض منذ اليوم الأول في محاولات جاهدة لتشتيت الصفوف وتمزيق المجتمع السوري، بإثارة النعرات الطائفية والقومية والقبلية فيه. وهذا يمكن تفهمه من سلطة متبجحة كانت على الدوام تستأثر بالوطن كملكية خاصة، وتنظر إلى المواطنين كأرقاء عليهم الخنوع قانعين بما قسم لهم. يمكن تفهم استراتيجية النظام الذي لا يحرص على السلطة فحسب، إنما يحرص على دوامها بكل أوجهها القذرة من قمع ونهب وقتل.
أضاع بشار من الفرص داخلياً وخارجياً ما لم يتح له، واليوم يحاول أن يعاقب سورية بأكملها، بأرضها ومواطنها ومستقبلها على إخفاقه هو ونظامه، وخاصة أن الحالة تأزمت إلى درجة لا تسمح بالنكوص، لا من قبل السلطة التي تدرك بأن الشارع لن يرضى بأقل من أفولها، ولا من قبل الشارع المنتفض الذي يدرك من خبرته المديدة أن السلطة إذا تنفست الصعداء فستحول البلاد إلى سجن وحشي عقوداً أخرى.
ولأن هاجس الوطن يمتلكنا أكثر من هاجس السلطة، لا بد من الإقرار بأن نظام الأسد لا شيء يدعمه مثل دعم مواليه، هؤلاء الموالون الذين ينطلقون من تصورات فاسدة على اختلاف هذه التصورات، فهم ما زالوا يقدمون له الدعم والفرص في وقت حرج مليء بالمخاطر، يحرصون على السلطة أكثر من الوطن السوري، ولذلك هم مسؤولون مسؤولية مباشرة عن تدويل الوضع بما يتيح التدخل الخارجي بل ويجعله ضرورة قصوى.
خلال أربعة عقود لم يكن السوريون جبناء أمام السلطة، لكنهم ضحوا بحرياتهم وتقبلوا الإهانة خوفاً على سورية لا خوفاً من النظام السوري، واليوم بعد كل هذا الصبر والتحمل، وعندما وصلت الأمور إلى حد لا يحتمل، على النسيج السوري بكافة أطيافه أن ينظر إلى الأزمة خارج الحسابات ضيقة الأفق، والتي تحاول أن تفسر الوطن على هواها، وهؤلاء الذين يتعامون عن الفجور الوحشي الذي يمارسه النظام على الأرض، معللين موقفهم بما يرددونه من أكاذيب سلطة، هم يعرفون مدى وحشيتها ولصوصيتها وكذبها، أن ينحازوا إلى الوطن، وأن يبادروا إلى التخلي عن هذه السلطة التي تتجه بالبلاد إلى الخراب. أن ينظروا بوعي إلى الفرصة الأخيرة، أن يفكروا ملياً في من يجب أن تقدم له الفرصة ليستمر، الوطن السوري الذي يقدر الفرصة ويحتاجها لإنقاذ البلاد والعباد، أم النظام السوري الذي بدد الفرص دوماً؟!