من حسنات الثورة السورية أنها أعادت طرح المسلمات المسبقة وجعلت كل المواطنين يهتمون بالشأن السياسي بعدما كانوا يتجنبون الخوض في هذه المواضيع “المحفوفة بالمخاطر”. بدأ الناس أيضاً يدركون الفروق بين اﻷقوال و اﻷفعال ويتنبهون لحقيقة الواقع المحيط بهم.
اللحظة الثورية هي قبل كل شيء لحظة فهم عميق للواقع المُعاش وﻷسبابه، يدرك خلالها الثائرون فداحة الظلم المحيق بهم وعقم النظام السياسي الذي يواجهونه، ٳضافة ٳلى عجز المنظومة السلطوية عن وضع حد لمعاناتهم. في هذه اللحظة يدرك الثائرون أن الظلم و الفقر والقمع هم نتاجٌ طبيعي لمنظومة الطغيان المتكاملة، التي أمِلوا منها الدفاع عن حقوقهم و تحصيلها وأن هذه المنظومة هي كيان واحد، لا فرق بين أي من أطرافها و وجوهها. القائد مدّعي اﻹصلاح يتكامل مع حرسه “القديم” ومع زبانيته، لحماية ديمومة التسلط و النهب.
حين يصل الوعي الثوري ٳلى هذه الدرجة من النضج، ويتعمم، تكون الثورة قد بلغت نقطة اللاعودة، كالنائم الذي استفاق بعد سبات طويل وأدرك فداحة الكابوس الذي كان يعيش تحت وطأته. العودة ٳلى الوراء و”النوم” تكون حينها مرادفة للموت. ٳن اختار الثائر، طوعاً، وضع حد لثورته قبل الوصول ﻷهدافه المشروعة في حياة كريمة، يكون قد اختار الانتحار على شكل كابوس جديد، أقسى بكثير من سابقه ﻷنه سيكونُ ثأرياً و استئصالياً. قد يأتي الموت، أيضاً، بأن يقوم الطاغية بسحق شعبه في غفلة من الزمان مستغلاً فتور عزيمة هذا الشعب و تواطؤ محيطه، حينها تكون مجازر كحماه الثمانينات و ككمبوديا تحت حكم الخمير الحمر، بعدما “تململ” الكمبوديون من حكم “بول بوت” فكانت مزارع و معسكرات الموت في انتظار المتململين، فما بالك بالثائرين.
ليست صدفة إذاً تكرار شعارات مثل “خاين” و “باع الجولان” و”هنا سوريا وليس ٳسرائيل”. الشعب السوري أدرك بفطنته و بنقائه الثوريين ما كان يدور همساً في أروقة الساسة المخضرمين و مراكز البحوث الاستراتيجية العالمة ببواطن اﻷمور.
مجرد التساؤل عن وطنية اﻷسد اﻷب، ثم الابن، هو ٳدانة للنظام. ٳذ أين الوطنية حين “تُوَرَّث” البلاد والعباد لنجل الرئيس كاﻷهراء و المزارع؟ أين الدفاع عن تراب الوطن والجولان تحت الاحتلال اﻹسرائيلي فيما “جند اﻷسد” يحتلون درعا وبانياس ويقتلون مواطنيهم “لكي يحيا اﻷسد”؟
هناك الكثير من الوقائع، التي تنفي كل حس قومي لدى آل الأسد و تطرح شكوكاً جدية حول “وطنية” النظام. على سبيل المثال لا الحصر: التخلي عن الجولان دون قتال وتركه محتلاً منذ أكثر من أربعة عقود، في حين تحررت سيناء و الجنوب اللبناني؛ ٳفقار البلاد ونهب ثرواتها مع تركها تغوص في مستنقع الفساد والتخلف؛ غزو لبنان و ذبح المقاومة الوطنية فيه؛ تفتيت المقاومة الفلسطينية بعد ٳضعافها و مجازر تل الزعتر وغيرها؛ التفاهمات مع ٳسرائيل وتقاسم النفوذ معها في بلاد اﻷرز؛ سحق كل حراك وطني أو تحرري في لبنان كما في سوريا؛ قتل عشرات الآلاف من السوريين واللبنانيين و الفلسطينيين، بأكثر مما قتلت ٳسرائيل. اللائحة أطول من أن نذكرها كاملة، ٳضافة ٳلى أن ما خفي كان أعظم.
كل هذه لا تعدو كونها “قرائن” على الخيانة، دون أن تكون أدلة ثابتة، و تحتمل، بجهد جهيد مع سوء نية فاضحين، أن نعتبرها “غير كافية” ﻹثبات خيانة النظام.
ماذا عن تصريحات رامي مخلوف “بأن أمن ٳسرائيل من أمن سوريا”؟ أيضاً، مع سوء نية وصفاقة لا حدود لهما، قد نعتبر هذا التصريح “غير موفق” أو “تهديداً للعدو الصهيوني لكي يتوقف عن دعم العصابات المسلحة والسلفية التي تعبث بأمن الوطن و المواطن”…
كيف السبيل ٳذاً لمعرفة إن كان النظام خائناً أم لا؟
من غير المتوقع أن تعترف ٳسرائيل بوجود أي صلة لها، مباشرة أو غير مباشرة، باﻷسد اﻷب ثم الابن أو بنظامهما، ﻷن ذلك يجعلها شريكاً كاملاً في ٳجرام النظام و مسؤولة قانونياً عن أفعاله. الصحافة اﻹسرائيلية لن تنشر تسريبات خوفاً من النتائج. نذكر أن الصحافة اﻹسرائيلية كانت قد فضحت عمالة “أشرف مروان” صهر عبد الناصر و مستشار السادات والملقب من قبل الموساد ب “الملاك” أو “بابل”. كانت النتيجة “انتحار” الرجل من شرفة منزله في لندن عام ٢٠٠٧وما تبعه من اتهام الصحفيين الإسرائيليين بتعريض الأمن القومي في بلادهم للخطر.
هل ستأتي “صحوة ضمير” للنظام و يعترف، تائباً، بخيانته و بفساده أو بعمالته للعدو؟ هذا مستحيل ﻷن “المكتوب يُقرأ من عنوانه” فلو كان لدى هذا النظام ضمير، لما كان خان و لما كان قتل.
المستفيد من جريمة الخيانة “المُفترضة” لن يورّط نفسه بفضحها، و الخائن لن يكون “قليل العقل” بحيث يعترف بفعلته، خاصة مع غياب الأدلة القاطعة.
يبقى أمامنا أن ندرس كيف يبرر النظام سلوكه و نحلل روايته للأحداث.
مع كل القرائن التي تدينه و تثبت تخاذله، لا زال نظام اﻷسد يجأر بأنه قلعة الممانعة و أنه “يدفع ثمن صموده” و مواجهته للعدو الصهيوني و من خلفه الامبريالية و اﻷمم المتحدة و العالم أجمع “سوى ٳيران و أتباعها”، وأنه يواجه عصابات مسلحة مجهولة الهوية و مرتبطة بالخارج، لا أحد يعلم من أين أتت و لا كيف غفلت عنها عين اﻷمن “الساهرة على سلامة الوطن والمواطن”. هذه اﻷجهزة التي تحصي على المواطنين أنفاسهم و تحركاتهم، و يراقب عناصرها، وهم بمئات الآلاف، كل شاردة و واردة، لم تر هذه العصابات ولا شحنات اﻷسلحة “القادمة من دول الجوار” قبل أن تقرر هذه “العصابات” مهاجمة قوى اﻷمن و الجيش “المسالمة”.
سيناريو ضعيف، يصلح لفيلم سينمائي هابط، لا يبالي بالمنطق و يحتقر عقول السامعين، تماما كروايات اللصوص و الجرمين أمام القضاة و المحققين. مثلُ النظام السوري هنا كمثل سارق المحفظة الذي يدعي أنها “سقطت” في جيبه، أو أن أحدهم دسّها هناك لكي يلقي عليه التهمة وهو منها براء! اللص، كالنظام السوري، لا يعرف كيف وصلت المحفظة إلى جيبه و ليس لديه أدنى فكرة عمّن هو مسؤول عن وصولها إلى هناك، و هو الشخص “البريء و المسالم الذي يحترم القانون”…
من شاهد مقابلة “بشار الجعفري” سفير سوريا لدى اﻷمم المتحدة، وهو ٳيراني اﻷصل بالمناسبة ، يكاد يُصاب بالسكتة و هو يرى سعادة السفير ينفي حدوث اضطرابات في سوريا “هناك فقط عصابات، من بقايا الغزو البريطاني اﻷمريكي للعراق، تقتل الجنود السوريين المسالمين في ثكناتهم!”. كاد الصحفي المخضرم، المعتاد على المقابلات السياسية، يفقد أعصابه تجاه السفير الذي يكذب بكل صفاقة، كاللصوص و “الزعران”.
صفاقة السيد السفير هذه، ووقاحة نظامه، تليق باﻷوغاد والمجرمين و بطرائقهم في نفي التهم المنسوبة ٳليهم، بل و اتّهام الضحايا “بالتحرّش” بهم. لدى هؤلاء، المنطق البشري لا ينفع، حتى حين تواجههم العدالة بدلائل قاطعة، فٳنهم يستمرون بالنفي و المكابرة. النظام السوري، إذاً، يفعل الشيء و يقول نقيضه، “يقتل القتيل و يمشي بجنازته”.
لم يبق لنا في هذه الحالة إلا أن نتبع قول أهل الشام: “ٳن غاب عنك قليل اﻷصل فدلائله فعله”. على هذا المبدأ، النظام السوري “عديم اﻷصل” فاقد اﻷخلاق والذمة، كاذب محترف و “كل شيء في عرفه جائز”. بدون طول كلام: نظام اﻷسد “أزعر” ولكي نفهم ممارساته و”سياساته” ربما يكون علينا دراستها وفق مبادئ علم الجريمة، و ليس وفق علوم السياسة و الاجتماع اﻹنساني.
هنا تحضرني ذكرى لواقعة جرت معي شخصياً منذ بضعة أعوام، في باريس عام 1998 في مؤتمر علمي دولي. المؤتمر كان مخصصاً لعلماء النفس و التوجيه المعنوي، ٳضافة ٳلى المختصين بعلم الجريمة و علم النفس اﻹجرامي.
اجتمعت حينها بزميل كان يجلس بجانبي حين كنت أتصفح أنباء بلدي اﻷصلي سوريا على حاسب موضوع في خدمة المشاركين في المؤتمر. تبادلنا أطراف الحديث وأبدى الرجل إعجابه بدمشق التي زارها عدة مرات، وتحدث عنها حديث العارف بمواقعها و بمطاعمها بما فيها تلك الشعبية.
حين عرف أني سوري الأصل، سألني عن رأيي في الصراع العربي اﻹسرائيلي و كيفية حلّه؟ أجبته بأني قد هجرت سوريا منذ زمن، يأساً من نظام فاسد ومن صراع لا معنى له، وأن هذا الصراع سينتهي حين تسود الديمقراطية و تصبح قيمة اﻹنسان و الحياة البشرية فوق كل القيم و حين تصبح رفاهية البشر، كل البشر، هي الهدف اﻷسمى لكل اﻷنظمة في المنطقة، دون استثناء. الزميل أسرّ لي حينها أنه “جارنا من الجنوب” أي أنه ٳسرائيلي و أنه يشاركني نفس الرأي “لكن النظام في دمشق لا يريد السلام و يريد استمرار حالة الحرب”.
استغربت ردّه، فأنّى له أن يعرف موقف النظام السوري الحقيقي و هو ٳسرائيلي لا مصادر له سوى ٳعلام بلده؟ الزميل آتاني برد ما كنت أتوقعه على اﻹطلاق. قال لي “أنه يعرف الكثير من المسؤولين السوريين الذين قابلهم شخصياً و تحدث معهم وأنهم كانوا على علم بصفته الرسمية اﻹسرائيلية”.
زاد استغرابي و فضولي، علماً أن من يحمل جواز سفره مجرد تأشيرة ٳسرائيلية، ممنوع عليه دخول سوريا ولو “ترانزيت”. الرجل بدا هازئاً من سذاجتي قائلاً “أنه يدخل سوريا دون تأشيرة، فهو يزور دمشق لابساً لبوس قوات الفصل الدولية، ليلتقي بمسؤولين سوريين خفية”. على حد قوله، آخر مرة زار فيها دمشق، كان يرتدي زيّ الكتيبة النمساوية من ال”UNDOF “. قوات اﻷمم المتحدة لمراقبة فصل القوات في الجولان المحتل.
لم يقل لي الرجل عمّا كان يفعله بالضبط في عاصمة الأمويين، ولا مضمون محادثاته أو أسماء من التقى بهم، اكتفى بالقول “أنه يعرف مسؤولين كباراً في النظام” .الرجل اكتفى بإبداء استغرابه “لرفض” النظام إجراء مباحثات علنية، ناهيك عن توقيع ٳتفاقية سلام، في حين كان يفرش البساط الأحمر له و لزملائه من “زوّار الليل”؟
أنا أيضاً شاركته في الاستغراب، ولسان حالي يقول “إنّه لكلام مغرض، يهدف لوهن عزيمة الأمة”. فكيف أصدق ٳسرائيلياً لا أعرفه، قابلته صدفة، ولا أصدق “سيد الصمود و الممانعة”؟ كيف يكون بطل “حرب تشرين التحريرية” قابلاً بتدنيس عاصمة العروبة من قبل “الصهاينة اﻷعداء”؟
حينها كنت، كالكثير من السوريين و رغم وجودي الطويل في الغربة، غارقاً في “كابوس” الممانعة و الصمود اﻷسديين. لم ألق بالاً لكلامه و نسيت الحادثة من أصلها، حتى ذكّرتني بها تطورات الوضع السوري و التي جعلتني أميل إلى تصديق رواية الرجل حول زياراته لدمشق.
ماذا ٳذا كان الرجل صادقاً في امتعاضه من نفاق النظام السوري و مراوغاته؟ ماذا لو كان الرجل يرغب حقاً بالسلام و بزيارة دمشق علناً، كأي سائح “ليأكل الحمص و الفول في مطعم بوز الجدي”؟
ألا يفسّر هذا الكثير من مواقف اﻷسد ونظامه، غير المفهومة، بمقياس الصمود و الوطنية الحق؟ هل يكون “التعاون” السوري اﻹسرائيلي الحلقة المفقودة اللازمة لفهم سلوكيات النظام اﻷسدي؟
في هذه الحالة، ماذا كان الرجل يفعل في دمشق؟ بمَ كلّفته حكومة بلاده؟ ماهي المهمة التي تستحق أن يأتي خبراء ٳسرائيليون ٳلى دمشق من أجلها؟ السؤال اﻷكثر أهمية يبقى:”ماذا كان يفعل خبير في علم النفس اﻹجرامي لدى نظام اﻷسد اﻷب؟”. الرجل ليس عسكرياً عادياً لنقول أنّه كان في مهمة ٳجرائية تقنية متعلقة بفصل القوات.
عادة ما يُستفاد من هؤلاء الخبراء في التحقيق مع المجرمين و في فهم تصرفاتهم. يُحتمل، إذاً، أن تكون إسرائيل، العالمة بالطبيعة المافيوزية للنظام، قد أرسلت هذا الخبير، بين آخرين، لمساعدة حكّامها على فهم دقائق العلاقات و تقاسم النفوذ بين أجنحة النظام المختلفة. لكن، هناك احتمال آخر، فهؤلاء الخبراء ضالعون في أمور التلاعب بالعقول و التوجيه المعنوي و أيضاً الدعاية السياسية.
فهل تلقى السيد الجعفري، أو سادته في دمشق، دروساً في الكذب و التضليل على يد صاحبنا؟ هل كانت “الدروس الخصوصية” اﻹسرائيلية مجانية أم أن لها ثمنها و الذي صار الآن معروفاً للقاصي و الداني؟
الحديث يدور عن زمن سابق، عن عام ١٩٩٨، فهل لا زالت العلاقات اﻷسدية-اﻹسرائيلية، الحرام، على حميميّتها السابقة؟ هل جاء “المدرّس” اﻹيراني الجديد ٳضافةً ٳلى المعلّم اﻹسرائيلي اﻷول أم بديلاً عنه؟ هل حافظَ اﻷسد الوريث على “أمانة الوالد” أم أنه فرّط ببعضها و عدّل البعض، أو الكثير، من تفاصيلها؟
القارئ اللبيب فهم حتماً أن اﻹجابة على هذه اﻷسئلة، أو بعضها، لن تكون سهلة ولا واضحة، وحده التاريخ سيكون قادراً على اﻹجابة.
يبقى السؤال عن العلاقة بين نظام الأسد الأب، ثم الابن، مع “العدو الإسرائيلي”وعن خفايا وتطورات هذه الصلة، مطروحاً و بشدة.