للمثقف في الحالة السورية دور أساسي في فضح ممارسات النظام وفي كشف المستور من آليات عمل أجهزته المختلفة، فمن مهامه طرح اﻷسئلة ومن ثم محاولة اﻹجابة عليها وفق مبادئ المنطق و المنهج العلمي الاستقرائي، بعيداً عن العواطف والرغبات. على المثقف أن يرى الواقع كما هو لا كما يشتهي أن يكون وأن يتعامل مع وقائع و”حقائق” مثبتة كي ينطلق منها ٳلى محاولة فهم اﻷحداث و ٳمكانات تطورها وفق منهاج منطقي في الاستنتاج.
من هذا المنطلق أدعو كافة المثقفين السوريين والمهتمين بالشأن السوري ٳلى المساهمة في ٳلقاء الضوء على آليات عمل النظام السوري و تفسير تصرفاته، كل بحسب علمه و في مجاله. يجب على المثقف توصيف الواقع السوري، كما هو حقيقة، وبشجاعة، خارج اﻹطار الفكري اﻷجوف الذي فرضه النظام وبعض معارضيه، ممن يجارونه استبداداً بالرأي و رفضاً للآخر وللاختلاف.
أوردت هذه المقدمة نظراً لحساسية الموضوع واستباقاً لعبارات مثل “النفس الطائفي” و “خائن، مفرِّط و مستعين بالعدو” الخ… فالحجة بالحجة تُقارع.
النظام السوري أكثر من مجرد سلطة، فهو بناء فكري و طريقة عمل، ٳضافة ٳلى تفاهمات و تحالفات داخلية وخارجية، علنية وسرية، وعلاقات مصلحية متشعبة، متناقضة أحيانا،ً ولكن لها غاية نهائية تتلخص في مصادرة السلطة والاحتفاظ بها “ٳلى اﻷبد وٳلى ما بعد اﻷبد” كما أشارت ٳحدى لافتات النظام المشهورة.
أسطورة الممانعة هي من أعمدة البناء “المعرفي” للنظام. هي أسطورة ﻷن القبول بها يعني مجافاة أحكام العقل والمنطق. فأين الممانعة لدى نظام يعترف بحدود 1967 و هو بهذا يعترف ضِمناً بإسرائيل؟ ثم أين الممانعة بعد القبول بمؤتمر مدريد وبعده بالمبادرة السعودية وأخيراً باعتبار السلام خياراً استراتيجياً! مسقطاً كل خيارٍ آخر. القراءة المنطقية لهذا الموقف تشير ٳلى أن النظام يستجدي “السلام” بأي ثمن لعدم وجود أي خيار آخر لديه. ممانعة النظام ٳذاً لا تعدو كونها تعبيراً عن عجز النظام المطلق، عن السلم وعن الحرب، وليست تعبيراً لا عن قوة ولا عن صمود.
أسطورة أخرى بُني عليها النظام هي وهم “الجيش السوري الوطني”: الجيش السوري لا يمكن له ٳلا أن يكون وطنياً مهما كانت ممارساته ولو كان تاريخه حافلاً بكل ما يتنافى مع الوطنية!
الجيش السوري في شكله الحالي هو وريث الجيش الذي أنشأه المستعمر الفرنسي ليكون نصيراً له في وجه حركة التحرر الوطني. الفرنسيون أرادوا لهذا الجيش أن يكون فئوياً و منصة انطلاق لعناصر الطوائف واﻷقليات، خاصة المضطهدة. أراد المستعمر استغلال خوف هذه اﻷقليات من اﻷغلبية لكي يستطيع التحكم بها ولكي يديم نفوذه ٳلى ما بعد رحيل قواته المستعمرة.
هذا بالضبط ما حدث بعد الاستقلال، فقد أتى انقلاب “حسني الزعيم” عام 1949 وعرضه خدماته على من يرغب “ومن ضمنهم ٳسرائيل” دليلاً على بدء قيام الجيش بخدماته “اللاوطنية” على خير ما يرام.
ليست سوريا استثناء بل مثلها كمثل أغلب البلدان التي خضعت للاستعمار اﻷوربي. مثلاً، التوتسي في رواندا جاء بهم المستعمر اﻷوربي خصّيصاً لكي يجندهم في صفوف الجيش الرواندي سيء الذكر. اضطُرَّ الأوربيون فيما بعد للتدخل في رواندا حين قارب عدد ضحايا هذا “الجيش” والثورة التي قامت ضده المليون قتيل. في فيتنام الجنوبية، كمبوديا، لاوس وفي العراق ومصر الناصرية وغيرها، كانت الجيوش التي أسسها المستعمر أداة عدم استقرار وتحول بعضها لقوة احتلال داخلي. لذا قامت كوستاريكا بحلّ جيشها فور استقلالها، ربما لهذا السبب لم تعرف كوستاريكا لا الانقلابات ولا الديكتاتورية.
في فيتنام الجنوبية وفي كمبوديا، ثم في رواندا وحديثاً في العراق، انتهى اﻷمر ٳلى حلّ هذه الجيوش بشكل نهائي وٳعادة تشكيلها على أسس جديدة. هذا يفسر، ربما، قرار الحاكم اﻷمريكي للعراق “بريمر” والذي اعتُبر في حينه كارثياً، بحل الجيش العراقي.
“بريمر” اعتبر أن جيش صدام الذي غزا بلدين مسالمين “ٳيران الحسن بني صدر ثم الكويت” وأتبع ذلك بمجازر ضد ثورة الجنوب العراقي، غير قابل للٳصلاح. هذا الجيش وطّد سلطة البعث العراقي، صنو شقيقه السوري، وسمح لصدّام بالاستمرار في حكم العراق، رغم سياساته المجنونة، دون الانقلاب عليه مع كل ما أصاب العراق من نوائب بسبب السياسات الصدّامية اللاعقلانية.
لو أن الجيش العراقي انقلب على صدّام، قبل أو حتّى بعد، غزوه لٳيران، أو الكويت، لكان حقن دماء ملايين اﻷبرياء. من هنا فعل به الحاكم اﻷمريكي ما فعله الأمريكيون بالجيش النازي في ألمانيا واﻹمبراطوري في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
ماذا بشأن الجيش السوري؟ الجيش السوري كمؤسسة من مؤسسات الدولة السورية وليس كأفراد.
الغالبية الساحقة من أفراد وضبّاط الجيش تتألف من أشخاص شرفاء ووطنيين، لكن “المؤسسة” العسكرية السورية لم تكن في يوم من اﻷيّام مؤسسة وطنية، وطنية بمعنى أنها في خدمة مصالح الوطن وليس النظام أو العقائد. آخر رجل وطني حر وصل ٳلى السلطة في سوريا عن طريق الجيش كان المرحوم “سامي الحناوي” الذي انقلب على “حسني الزعيم”، اﻷفّاق الذي “دشّن” مرحلة الانقلابات العسكرية في كل العالم العربي. الحناوي سلم السلطة بعد يومين لهاشم الأتاسي بعدما أعدم “حسني الزعيم” ورئيس وزرائه الانقلابي.
الجيش أتى فيما بعد برجال لديهم مشروعات فئوية، شخصية، عقائدية أو فوق-وطنية، عروبيّة عموماً. أيٌّ من هذه المشاريع لم يكن يتضمّن بناء دولة وطنية مستقلة وحرة.
بعض الانقلابيين أراد تحسين أوضاع فئات بعينها، أو أقليّات، وآخرون ربطوا مصير البلاد بمشروع اشتراكي وحدوي، طوباوي، مستحيل التحقق موضوعياً.
منذ الاستقلال، و خاصة منذ قيام النظام البعثي، تم تدريجياً طرد وسجن وٳبعاد كل ضابط وطني حر، كائناً ما كان انتماؤه. بعض الضباط الوطنيين “استشهد” أو مات في ظروف غامضة. المهم أن لا يبقى في الجيش أي ضابط يظهر وطنية حقّة أو استقلالاً في الرأي. من لم يُبعد، تم تهميشه وٳبعاده عن المسؤوليات. النظام اﻷسدي أكمل المهمة التي بدأها نظام البعث، فأنهى كل استقلالية ممكنة للجيش وحوّله، كمؤسسة، ٳلى “عصابة” من عصابات السلطة.
كل من أدّى الخدمة العسكرية يعرف أن الجيش السوري يصلح لكل شيء غير قتال العدو!
عقيدة الجيش السوري العسكرية قائمة على الطاعة العمياء، لحد الحمق، وٳلا فالموت الزؤام بتهمة عصيان اﻷوامر. نفس العقيدة الصدّامية “الناجحة” كما أسلفنا. وهو ما يضع أي عسكري أمام خيار “أن يقتل أو أن يموت” مهما تكن الأوامر.
يبدأ “التدريب” بٳذلال المجندين و تعريضهم لكل أشكال اﻹهانات وأحيانا التعذيب أو الضرب. حين يُسأل الضابط المسؤول عن تبريرات هذه المعاملة يرد بكل جدّية : “لكي تقسو نفوس العساكر و يتحمل الجندي العذاب واﻹهانة، كي لا ينهار فوراً في حال وقوعه في اﻷسر!”. المطلوب ٳذاً من المقاتل السوري “التعود” على ظروف اﻷسر منذ بداية الخدمة العسكرية، لا استباق النصر ولا تطوير مهاراته بحيث يتفادى اﻷسر. النتيجة هي جيش أفراده خانعون معتادون على الطاعة وعلى اﻹهانة، لا على الكرامة و الدفاع عن الحق.
هذا على مستوى المجندين فماذا عن ضبّاط الصف و الضبّاط متوسطي الرتب؟
عندما يكون لديك مجنّدون مطيعون وخائفون، فاﻷمر عائد ﻷخلاق كل ضابط و “احتياجاته”. ففي حين يقنع أغلب الضبّاط الشرفاء برواتبهم المتواضعة وبمساكنهم العسكرية، يمارس البعض مهناً أخرى منها ما لا يليق برتبهم وبمسؤولياتهم، فليس من النادر في دمشق أن يكون سائق التاكسي التي تركبها برتبة رائد أو مقدم. أغلب ضبّاط الصف يزاولون مهنة ثانية فرواتبهم بالكاد تسد رمقهم.
من يركض وراء لقمة العيش سوف يصعب عليه التفرغ لمهامه العسكرية ولحماية وطن لا يسمح له بأن يكسب عيشه من أداء مهمته النبيلة.
لكن النظام قد احتاط للموضوع وترك “باب رزق” مفتوحاً لكل أصحاب الضمائر الضعيفة: المجندون هم مفتاح الفرج لكل ضابط يريد الكسب السريع والسهل. الكلمة السحرية هي اﻹجازات و كل شيء بثمنه. المجند الذي يريد رؤية أهله، أو أن يعمل لكسب عيشه، أو لمجرد “كفّ البلاء” عليه أن يدفع المعلوم، أو يشتغل لحساب “المعلم”…هذه الفئة من الضباط هي تلك التي يفضلها النظام و يثق بها، بل ويفتح أمامها أبواب الترقية.
الضبّاط الكبار لديهم “أرزاق” أخرى، لديهم شركاء من التجار و أصحاب اﻷملاك. الضباط الكبار هؤلاء يحمون أصحاب المصالح، ييسرون أمورهم، ويقاسمونهم أرباحهم. النظام يضع في خدمة هؤلاء الضبّاط الأمراء منازل وسيارات مع وقودها وسائقيها. لكل ضابط كبير مزرعة أو مزارع، و ورشات، يعمل فيها مجندون “مجاناً” ولساعات غير محدودة، خدمة للوطن و”ﻷصحاب الوطن”. هؤلاء الضباط عاشوا عصرهم الذهبي في بلاد اﻷرز طيلة ثلاثة عقود واغتنوا بغير حق على حساب الشعبين السوري واللبناني.
في ظل اﻷسد تحول الجيش السوري ٳلى “مافيا” مرتبطة عضوياً بالنظام لا علاقة له لا بتحرير أرض ولا بالدفاع عن وطن. 80 بالمائة من معدّات الجيش لا تصلح سوى للقمع الداخلي “وكفى الله المؤمنين شر القتال”.
لم يكتف النظام بٳفساد الجيش وضبّاطه اقتصادياً و أخلاقياً، فزاد عليها أنه خلق تراتبية جديدة، طائفية هذه المرة. في كل قطعة عسكرية يقودها ضابط من غير الطائفة “المؤتمنة” على الوطن والنظام، تجد ضابطاً من رتبة أدنى، و من الطائفة العلوية حصراً، بيده الحل والربط وهو ما يعني أن الرتبة العسكرية، وهي رمز وطني، أقل أهمية من الانتماء الطائفي السلطوي.
هذا فيما يخص الجيش العامل، فماذا عن الجيش الآخر؟ ذاك المنوط به حصراً حماية النظام. أعني الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة. هنا اﻷمر مختلف جذرياً فالكل، تقريباً، من لون طائفي واحد والتراتبية السائدة هي ارتفاع المكانة بقدر القرب من العائلة الحاكمة. الرواتب هنا مرتفعة والمنازل مريحة، قريبة من القصر “الملكي؟”. هؤلاء منهم “الشبّيحة” ومنهم حماة النظام اﻷساسيون.
الضباط الذين دخلوا الكلية الحربية أيام حرب تشرين التي لم تحرر شيئاً يُذكر، هم على وشك التقاعد دون أن يطلقوا طلقة واحدة ضد “العدو” اﻹسرائيلي، أغلبهم لم ير الجولان ولا شاهد حتى طائرة إسرائيلية! لكن الكثيرين منهم “قاتلوا” ضد شعوبهم. ضد الفلسطينيين، ضد العراق، في لبنان، وأخيراً ضد ٳخوتهم السوريين.
ماذا دار في خلد الضابط البحري الذي قصف اللاذقية؟ أين بوصلته وقسمه العسكري؟ الرامي الذي “نسف” مئذنة جامع عثمان بن عفان في دير الزور هل اختلط لديه اﻷمر؟ فظن المئذنة صاروخاً ٳسرائيلياً؟ وهكذا دواليك…
وزير دفاع اﻷسد المقال، علي حبيب، لم يجلِّ في ميادين الوغى مع “العدو” اﻹسرائيلي بل شارك في حفر الباطن وحمل أوسمة أمريكية.
بالنتيجة، يبدو مشروعاً أن نتساءل عمّن هو “العدو” بالنسبة للجيش السوري؟
الوقائع الحالية تُظهر هذا الجيش كجيش احتلال يتعامل مع “مواطنيه” بأقسى بكثير من تعامل المحتل اﻹسرائيلي مع الفلسطينيين.
على عكس الجيشين التونسي والمصري اللذين تصرفا كجيوش مسؤولة ووطنية، يتصرف الجيش السوري تماماً كعصابات القذافي في ليبيا، يقتل ويدمر ويفتح الطريق لقطعان الشبّيحة كي تكمل المهمة القذرة.
وجود حالات فردية، ومحدودة، من الانشقاق عن صفوف الجيش، يدل على شجاعة المنشقين الفائقة و يؤكّد ما نذهب ٳليه دون أن ينفيه، فالجيش كمؤسسة ينخرط أكثر فأكثر في ممارسات النظام اﻹجرامية، مما يضع على المحك دور هذا الجيش في أي مشروع مستقبلي لسوريا.
نخشى من أن يكون مصير الجيش السوري كمصير صنوه الصدّامي ٳن هو استمر في التصرف كجيش احتلال ولم يتحمل مسؤولياته كحامٍ للديار وليس للنظام.
ختاماً، أترك للقارئ، وللمستقبل، أن يقررا ٳن كان الجيش السوري جيشاً وطنياً حقاً.
للمثقف في الحالة السورية دور أساسي في فضح ممارسات النظام وفي كشف المستور من آليات عمل أجهزته المختلفة، فمن مهامه طرح اﻷسئلة ومن ثم محاولة اﻹجابة عليها وفق مبادئ المنطق و المنهج العلمي الاستقرائي، بعيداً عن العواطف والرغبات.
على المثقف أن يرى الواقع كما هو لا كما يشتهي أن يكون وأن يتعامل مع وقائع و”حقائق” مثبتة كي ينطلق منها ٳلى محاولة فهم اﻷحداث و ٳمكانات تطورها وفق منهاج منطقي في الاستنتاج.
من هذا المنطلق أدعو كافة المثقفين السوريين والمهتمين بالشأن السوري ٳلى المساهمة في ٳلقاء الضوء على آليات عمل النظام السوري و تفسير تصرفاته، كل بحسب علمه و في مجاله. يجب على المثقف توصيف الواقع السوري، كما هو حقيقة، وبشجاعة، خارج اﻹطار الفكري اﻷجوف الذي فرضه النظام وبعض معارضيه، ممن يجارونه استبداداً بالرأي و رفضاً للآخر وللاختلاف.
أوردت هذه المقدمة نظراً لحساسية الموضوع واستباقاً لعبارات مثل “النفس الطائفي” و “خائن، مفرِّط و مستعين بالعدو” الخ… فالحجة بالحجة تُقارع.
النظام السوري أكثر من مجرد سلطة، فهو بناء فكري و طريقة عمل، ٳضافة ٳلى تفاهمات و تحالفات داخلية وخارجية، علنية وسرية، وعلاقات مصلحية متشعبة، متناقضة أحيانا،ً ولكن لها غاية نهائية تتلخص في مصادرة السلطة والاحتفاظ بها “ٳلى اﻷبد وٳلى ما بعد اﻷبد” كما أشارت ٳحدى لافتات النظام المشهورة.
أسطورة الممانعة هي من أعمدة البناء “المعرفي” للنظام. هي أسطورة ﻷن القبول بها يعني مجافاة أحكام العقل والمنطق. فأين الممانعة لدى نظام يعترف بحدود 1967 و هو بهذا يعترف ضِمناً بإسرائيل؟ ثم أين الممانعة بعد القبول بمؤتمر مدريد وبعده بالمبادرة السعودية وأخيراً باعتبار السلام خياراً استراتيجياً! مسقطاً كل خيارٍ آخر. القراءة المنطقية لهذا الموقف تشير ٳلى أن النظام يستجدي “السلام” بأي ثمن لعدم وجود أي خيار آخر لديه. ممانعة النظام ٳذاً لا تعدو كونها تعبيراً عن عجز النظام المطلق، عن السلم وعن الحرب، وليست تعبيراً لا عن قوة ولا عن صمود.
أسطورة أخرى بُني عليها النظام هي وهم “الجيش السوري الوطني”: الجيش السوري لا يمكن له ٳلا أن يكون وطنياً مهما كانت ممارساته ولو كان تاريخه حافلاً بكل ما يتنافى مع الوطنية!
الجيش السوري في شكله الحالي هو وريث الجيش الذي أنشأه المستعمر الفرنسي ليكون نصيراً له في وجه حركة التحرر الوطني. الفرنسيون أرادوا لهذا الجيش أن يكون فئوياً و منصة انطلاق لعناصر الطوائف واﻷقليات، خاصة المضطهدة. أراد المستعمر استغلال خوف هذه اﻷقليات من اﻷغلبية لكي يستطيع التحكم بها ولكي يديم نفوذه ٳلى ما بعد رحيل قواته المستعمرة.
هذا بالضبط ما حدث بعد الاستقلال، فقد أتى انقلاب “حسني الزعيم” عام 1949 وعرضه خدماته على من يرغب “ومن ضمنهم ٳسرائيل” دليلاً على بدء قيام الجيش بخدماته “اللاوطنية” على خير ما يرام.
ليست سوريا استثناء بل مثلها كمثل أغلب البلدان التي خضعت للاستعمار اﻷوربي. مثلاً، التوتسي في رواندا جاء بهم المستعمر اﻷوربي خصّيصاً لكي يجندهم في صفوف الجيش الرواندي سيء الذكر. اضطُرَّ الأوربيون فيما بعد للتدخل في رواندا حين قارب عدد ضحايا هذا “الجيش” والثورة التي قامت ضده المليون قتيل. في فيتنام الجنوبية، كمبوديا، لاوس وفي العراق ومصر الناصرية وغيرها، كانت الجيوش التي أسسها المستعمر أداة عدم استقرار وتحول بعضها لقوة احتلال داخلي. لذا قامت كوستاريكا بحلّ جيشها فور استقلالها، ربما لهذا السبب لم تعرف كوستاريكا لا الانقلابات ولا الديكتاتورية.
في فيتنام الجنوبية وفي كمبوديا، ثم في رواندا وحديثاً في العراق، انتهى اﻷمر ٳلى حلّ هذه الجيوش بشكل نهائي وٳعادة تشكيلها على أسس جديدة. هذا يفسر، ربما، قرار الحاكم اﻷمريكي للعراق “بريمر” والذي اعتُبر في حينه كارثياً، بحل الجيش العراقي.
“بريمر” اعتبر أن جيش صدام الذي غزا بلدين مسالمين “ٳيران الحسن بني صدر ثم الكويت” وأتبع ذلك بمجازر ضد ثورة الجنوب العراقي، غير قابل للٳصلاح. هذا الجيش وطّد سلطة البعث العراقي، صنو شقيقه السوري، وسمح لصدّام بالاستمرار في حكم العراق، رغم سياساته المجنونة، دون الانقلاب عليه مع كل ما أصاب العراق من نوائب بسبب السياسات الصدّامية اللاعقلانية.
لو أن الجيش العراقي انقلب على صدّام، قبل أو حتّى بعد، غزوه لٳيران، أو الكويت، لكان حقن دماء ملايين اﻷبرياء. من هنا فعل به الحاكم اﻷمريكي ما فعله الأمريكيون بالجيش النازي في ألمانيا واﻹمبراطوري في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
ماذا بشأن الجيش السوري؟ الجيش السوري كمؤسسة من مؤسسات الدولة السورية وليس كأفراد.
الغالبية الساحقة من أفراد وضبّاط الجيش تتألف من أشخاص شرفاء ووطنيين، لكن “المؤسسة” العسكرية السورية لم تكن في يوم من اﻷيّام مؤسسة وطنية، وطنية بمعنى أنها في خدمة مصالح الوطن وليس النظام أو العقائد. آخر رجل وطني حر وصل ٳلى السلطة في سوريا عن طريق الجيش كان المرحوم “سامي الحناوي” الذي انقلب على “حسني الزعيم”، اﻷفّاق الذي “دشّن” مرحلة الانقلابات العسكرية في كل العالم العربي. الحناوي سلم السلطة بعد يومين لهاشم الأتاسي بعدما أعدم “حسني الزعيم” ورئيس وزرائه الانقلابي.
الجيش أتى فيما بعد برجال لديهم مشروعات فئوية، شخصية، عقائدية أو فوق-وطنية، عروبيّة عموماً. أيٌّ من هذه المشاريع لم يكن يتضمّن بناء دولة وطنية مستقلة وحرة.
بعض الانقلابيين أراد تحسين أوضاع فئات بعينها، أو أقليّات، وآخرون ربطوا مصير البلاد بمشروع اشتراكي وحدوي، طوباوي، مستحيل التحقق موضوعياً.
منذ الاستقلال، و خاصة منذ قيام النظام البعثي، تم تدريجياً طرد وسجن وٳبعاد كل ضابط وطني حر، كائناً ما كان انتماؤه. بعض الضباط الوطنيين “استشهد” أو مات في ظروف غامضة. المهم أن لا يبقى في الجيش أي ضابط يظهر وطنية حقّة أو استقلالاً في الرأي. من لم يُبعد، تم تهميشه وٳبعاده عن المسؤوليات. النظام اﻷسدي أكمل المهمة التي بدأها نظام البعث، فأنهى كل استقلالية ممكنة للجيش وحوّله، كمؤسسة، ٳلى “عصابة” من عصابات السلطة.
كل من أدّى الخدمة العسكرية يعرف أن الجيش السوري يصلح لكل شيء غير قتال العدو!
عقيدة الجيش السوري العسكرية قائمة على الطاعة العمياء، لحد الحمق، وٳلا فالموت الزؤام بتهمة عصيان اﻷوامر. نفس العقيدة الصدّامية “الناجحة” كما أسلفنا. وهو ما يضع أي عسكري أمام خيار “أن يقتل أو أن يموت” مهما تكن الأوامر.
يبدأ “التدريب” بٳذلال المجندين و تعريضهم لكل أشكال اﻹهانات وأحيانا التعذيب أو الضرب. حين يُسأل الضابط المسؤول عن تبريرات هذه المعاملة يرد بكل جدّية : “لكي تقسو نفوس العساكر و يتحمل الجندي العذاب واﻹهانة، كي لا ينهار فوراً في حال وقوعه في اﻷسر!”. المطلوب ٳذاً من المقاتل السوري “التعود” على ظروف اﻷسر منذ بداية الخدمة العسكرية، لا استباق النصر ولا تطوير مهاراته بحيث يتفادى اﻷسر. النتيجة هي جيش أفراده خانعون معتادون على الطاعة وعلى اﻹهانة، لا على الكرامة و الدفاع عن الحق.
هذا على مستوى المجندين فماذا عن ضبّاط الصف و الضبّاط متوسطي الرتب؟
عندما يكون لديك مجنّدون مطيعون وخائفون، فاﻷمر عائد ﻷخلاق كل ضابط و “احتياجاته”. ففي حين يقنع أغلب الضبّاط الشرفاء برواتبهم المتواضعة وبمساكنهم العسكرية، يمارس البعض مهناً أخرى منها ما لا يليق برتبهم وبمسؤولياتهم، فليس من النادر في دمشق أن يكون سائق التاكسي التي تركبها برتبة رائد أو مقدم. أغلب ضبّاط الصف يزاولون مهنة ثانية فرواتبهم بالكاد تسد رمقهم.
من يركض وراء لقمة العيش سوف يصعب عليه التفرغ لمهامه العسكرية ولحماية وطن لا يسمح له بأن يكسب عيشه من أداء مهمته النبيلة.
لكن النظام قد احتاط للموضوع وترك “باب رزق” مفتوحاً لكل أصحاب الضمائر الضعيفة: المجندون هم مفتاح الفرج لكل ضابط يريد الكسب السريع والسهل. الكلمة السحرية هي اﻹجازات و كل شيء بثمنه. المجند الذي يريد رؤية أهله، أو أن يعمل لكسب عيشه، أو لمجرد “كفّ البلاء” عليه أن يدفع المعلوم، أو يشتغل لحساب “المعلم”…هذه الفئة من الضباط هي تلك التي يفضلها النظام و يثق بها، بل ويفتح أمامها أبواب الترقية.
الضبّاط الكبار لديهم “أرزاق” أخرى، لديهم شركاء من التجار و أصحاب اﻷملاك. الضباط الكبار هؤلاء يحمون أصحاب المصالح، ييسرون أمورهم، ويقاسمونهم أرباحهم. النظام يضع في خدمة هؤلاء الضبّاط الأمراء منازل وسيارات مع وقودها وسائقيها. لكل ضابط كبير مزرعة أو مزارع، و ورشات، يعمل فيها مجندون “مجاناً” ولساعات غير محدودة، خدمة للوطن و”ﻷصحاب الوطن”. هؤلاء الضباط عاشوا عصرهم الذهبي في بلاد اﻷرز طيلة ثلاثة عقود واغتنوا بغير حق على حساب الشعبين السوري واللبناني.
في ظل اﻷسد تحول الجيش السوري ٳلى “مافيا” مرتبطة عضوياً بالنظام لا علاقة له لا بتحرير أرض ولا بالدفاع عن وطن. 80 بالمائة من معدّات الجيش لا تصلح سوى للقمع الداخلي “وكفى الله المؤمنين شر القتال”.
لم يكتف النظام بٳفساد الجيش وضبّاطه اقتصادياً و أخلاقياً، فزاد عليها أنه خلق تراتبية جديدة، طائفية هذه المرة. في كل قطعة عسكرية يقودها ضابط من غير الطائفة “المؤتمنة” على الوطن والنظام، تجد ضابطاً من رتبة أدنى، و من الطائفة العلوية حصراً، بيده الحل والربط وهو ما يعني أن الرتبة العسكرية، وهي رمز وطني، أقل أهمية من الانتماء الطائفي السلطوي.
هذا فيما يخص الجيش العامل، فماذا عن الجيش الآخر؟ ذاك المنوط به حصراً حماية النظام. أعني الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة. هنا اﻷمر مختلف جذرياً فالكل، تقريباً، من لون طائفي واحد والتراتبية السائدة هي ارتفاع المكانة بقدر القرب من العائلة الحاكمة. الرواتب هنا مرتفعة والمنازل مريحة، قريبة من القصر “الملكي؟”. هؤلاء منهم “الشبّيحة” ومنهم حماة النظام اﻷساسيون.
الضباط الذين دخلوا الكلية الحربية أيام حرب تشرين التي لم تحرر شيئاً يُذكر، هم على وشك التقاعد دون أن يطلقوا طلقة واحدة ضد “العدو” اﻹسرائيلي، أغلبهم لم ير الجولان ولا شاهد حتى طائرة إسرائيلية! لكن الكثيرين منهم “قاتلوا” ضد شعوبهم. ضد الفلسطينيين، ضد العراق، في لبنان، وأخيراً ضد ٳخوتهم السوريين.
ماذا دار في خلد الضابط البحري الذي قصف اللاذقية؟ أين بوصلته وقسمه العسكري؟ الرامي الذي “نسف” مئذنة جامع عثمان بن عفان في دير الزور هل اختلط لديه اﻷمر؟ فظن المئذنة صاروخاً ٳسرائيلياً؟ وهكذا دواليك…
وزير دفاع اﻷسد المقال، علي حبيب، لم يجلِّ في ميادين الوغى مع “العدو” اﻹسرائيلي بل شارك في حفر الباطن وحمل أوسمة أمريكية.
بالنتيجة، يبدو مشروعاً أن نتساءل عمّن هو “العدو” بالنسبة للجيش السوري؟
الوقائع الحالية تُظهر هذا الجيش كجيش احتلال يتعامل مع “مواطنيه” بأقسى بكثير من تعامل المحتل اﻹسرائيلي مع الفلسطينيين.
على عكس الجيشين التونسي والمصري اللذين تصرفا كجيوش مسؤولة ووطنية، يتصرف الجيش السوري تماماً كعصابات القذافي في ليبيا، يقتل ويدمر ويفتح الطريق لقطعان الشبّيحة كي تكمل المهمة القذرة.
وجود حالات فردية، ومحدودة، من الانشقاق عن صفوف الجيش، يدل على شجاعة المنشقين الفائقة و يؤكّد ما نذهب ٳليه دون أن ينفيه، فالجيش كمؤسسة ينخرط أكثر فأكثر في ممارسات النظام اﻹجرامية، مما يضع على المحك دور هذا الجيش في أي مشروع مستقبلي لسوريا.
نخشى من أن يكون مصير الجيش السوري كمصير صنوه الصدّامي ٳن هو استمر في التصرف كجيش احتلال ولم يتحمل مسؤولياته كحامٍ للديار وليس للنظام.
ختاماً، أترك للقارئ، وللمستقبل، أن يقررا ٳن كان الجيش السوري جيشاً وطنياً حقاً.