المشهد التمثيلي للجيش المنسحب من مدينة حماة، والذي ظهر فيه الجنود يلوحون بإشارات النصر حز في نفسي كثيراً، ذلك أني خلال ما يقارب الخمسة عقود لم أحظ برؤية إشارة نصر نعتز بها من الجيش المفترض أنه لحماية الوطن والمواطنين… جيش يسحق المواطنين ويرسم إشارات النصر الجذلى لا يستحق تسمية حماة الديار، بل يجب تسميته أعداء الديار!
عندما تم اقتيادي إلى الجيش من نقطة الحدود التي عبرت منها عائداً إلى الوطن، أسلمت أمري لله، واستسلمت على كره مني لأني كنت أعلم مثلما يعلم كل سوري منذ أن وقعت البلاد في براثن البعث أن الجيش أصبح جيش الحزب، ثم تحول إلى جيش النظام، تم الزج بنا في حرب مع عون (عدو الأمس وحليف اليوم) في سيناريو أبله لا يشتم منه سوى رائحة السمسرة مع الدولة العبرية… يومها قتل آلاف من الاحتياط الذين تم استدعائهم من مناطق معينة في سورية ليقتلوا في أزقة بيروت من أجل نصر سخيف، وكان جلهم ممن أنهى الخدمة العسكريةمنذ سنوات قليلة، أي إن معظمهم كان قد بدأ إنشاء اسرة… كنت أتأمل الأمر فلا ينوبني منه سوى المرارة… حينها تيقنت ان لا جيش لدينا..
مع بداية عهده المشؤوم أدرك الأسد الأب أنه لا يستطيع أن يعول على جيش وطني، فقد ينقلب عليه، ويعيد عهود الانقلابات التي كانت تتم بفارق أيام أحياناً، وهذا ما تشير إليه نكتة دبابة الفجر الشهيرة التي انتشرت في الخمسينيات، إذ قيل أن أول ضابط يستيقظ يركب الدبابة ويتجه إلى القصر الجمهوري ليعلن نفسه رئيساً. لذلك عمد الأسد الأب إلى تعديل خطته حول التحكم بمفاصل الجيش، إلى خطة أخرى يتم بموجبها تشكيل جيش رديف من خلال تضخيم قطاعات حرس النظام على حساب الجيش، فتم وضع سياستين مختلفتين لجيشين متوازيين، الجيش النظامي القائم على الإذلال والضعف والحرس الجمهوري مع فصائل داعمة تتنعم بالامتيازات وبأحدث الأسلحة المخصصة للحفاظ على سلامة النظام، وصلت الامتيازات أحياناً إلى حد امتيازات الطبقات العميلة للاحتلال في أوربة فيما يسمى حق الليلة الأولى، وهذا ما مارسه شقيق الرئيس والكثير من عناصره، شقيق الرئيس الذي يتلمظ من قصوره التي بناها من نهب الشعب السوري في الأراضي الأسبانية. ولم يكتف الأسد الأب بهذا بل حرص على تتطيف هذا الحرس الجمهوري بحيث تكون فيه غالبية طائفية، مع أقلية من الطوائف الأخرى من الرتب الأدنى المكلفة بالخدمة.
ومنذ ذلك الحين تحول الجيش النظامي إلى ثكنات خربة، ومقابر لكل الضباط الذين ترفعوا قبل أن يتحكم الأسد بالبلاد، فتجد حافلة متهالكة تزدحم بالجنرالات المهملين يعودون فيها إلى منازلهم، بينما ضابط صغير من الحرس الجمهوري تخدمه سيارات خمس أو أكثر…
بقي الجيش النظامي أداة لإذلال السوريين، فهي كأس لا بد أن يتجرعها كل سوري، وتبدأ بدورة أغرار مذلة، وتمضي تسحق النفوس المتطلعة إلى الغد لتدرك أن لها سقفاً لا تتجاوزه، واذكر أني التحقت بدورة تم ضمها لدورة سابقة كانت تتعرض لدورة تأديبية لأن اثنين من مجنديها شكلا فراراً عسكرياً…كم الذل والشتم المهين وطبيعة الحياة التي تبدت لي كانت مهولة، وحتى اليوم أستغرب كيف نجا بدني وعقلي من هول تلك الفترة، ذلك أن إحساسي لم ينج مثلما لم ينج إحساس أي شخص مر بهذا النفق من الذل. جيش يدرك الجميع أنه غير قادر على الصمود أمام عصابة، فكيف يحمي بلاداً، أثناء الإجازات كنت ألتقي أصدقائي الذين تم فرزهم إلى الحرس الجمهوري، فأستغرب ما هم فيه، ويستغربون ما أنا فيه!!
هذا الجيش تم اختباره في عهد الأسدين عدة مرات حتى الآن، أثبت على الدوام أنه تحول إلى أداة للنظام، ولم يبق لحماية الديار، ففي سنة 1967 وبينما مقاتلو الجيش السوري يقاتلون العدو الإسرائيلي بعد مدينة القنيطرة بمسافة جيدة، أصدر حافظ الأسد، (وزير الدفاع يومها) قراراً بالانسحاب الكيفي لسقوط مدينة القنيطرة، الأمر الذي أدهش الجنود المتحمسين لتحرير الأرض، وأبكى الكثير منهم لشعورهم بالمؤامرة الكبرى على التراب السوري التي بدأ بها الأسد عهده بها، وفي سنة 1973 تم تصوير حرب تشرين على أنها حرب تحريرية كبرى، وواقع الحال أنها لم تعد سوى جزء يسير من الأرض السورية التي لم يهتم بها الإسرائيليون لأنها أرض غير إستراتيجية وتقع خلف الحرمون والهضاب. بينما كانت الكلفة كبيرة ضاعت وسط شعارات التمجيد.
ثم ادخل الجيش دوامة لبنان، فدمر لبنان وسورية معاً، وأصبح مهزلة وأداة للجيش الإسرائيلي من خلال القيام بمهام بديلة نحو طرد الفلسطينيين وقمعهم، وتشتيت أللبنانين وتدمير اقتصادهم وبث الصراعات بينهم، وتحويل المشهد الديمقراطي اللبناني إلى مشهد أشبه بصراعات ملوك الطوائف وأمراء وسماسرة الحرب، دام هذا الأمر لأكثر من خمسة عشر سنة كان من المفترض أن ينسحب بموجب اتفاق الطائف، ولكنه مدد المهمة بحجج واهية خمسة عشرة سنة أخرى انتهت بسفك دماء الحريري وعدد من اللبنانيين.
وتم الزج بالجيش في مواجهة أحداث نهاية السبعينيات، فتم قتل عشرات الآلاف من المواطنين والتنكيل بهم وقتل أطفالهم واغتصاب نسائهم ونهب ممتلكاتهم وتدمير مساكنهم، والتي بلغت أوجها في تدمير مدينة حماة تدميراً شاملاً، يومها تم تقديم البرهان الساطع على أن الجيش أصبح جيش النظام وفقط، وأن مهمته الأساسية أصبحت في مواجهة الشعب.
وفيما عدا مشاركة رمزية في الحرب الأمريكية على العراق، بقي الجيش أداة للتدجين المبكر والكشف عن الميول الشخصية… في عام 2004 تم الزج ببعض كتائبه لقتل الأكراد المنتفضين من أجل كرامتهم وحقوقهم، فنكل بالمواطنين الأكراد وقمعهم بشدة. ومع انبثاق فجر الثورة الشعبية في سورية في آذار 2011 بدأ الإعداد لزجه ثانية في المهمة التي جعلها النظام هدفاً للجيش، وهي حماية النظام من الشعب. فمارس هذا الجيش منذ حينها بالتعاون مع الأمن وكتائب الشبيحة حرباً ضروساً لا هوادة فيها ضد العزل الذين لا يملكون سوى حناجرهم ليجهروا بمطلبهم المحق في الحرية والكرامة، كانت صورة الجيشين التونسي والمصري الذين رفضا قتل المواطنين تدغدغ أحلام الثائرين، فأحسنوا الظن مراراً وتكراراً، ولكن حدة القتل ارتفعت، على يد الجيش وآلته العسكرية الفتاكة. وهذا الأمر مع انه أثار الدهشة في العالم إلا أنه بدا مفهوماً عند السوريين، الذين يدركون أن القوة الضاربة هي الفرقة الرابعة التي تأتمر بأمر شقيق الرئيس الذي اعتاد على قتل السوريين بدون أن يرف له جفن، والتي تحوي كتائب وقيادات عقائدية مفرطة في عنجهيتها وبطشها وكراهيتها للشعب. إضافة إلى الجيش النظامي الذي يأتمر بأمر ضباط مقربين وشركاء للسلطة في الفساد. في ظل الأدبيات العسكرية التي تبيح قتل كل من يرفض الأوامر العسكرية بغض النظر عن مضمونها (نفذ ثم اعترض). هذه الأدبيات التي يتم فهمها على جبهات القتال ضد الأعداء حماية للوطن والأرض والشعب، وليس ضد الشعب والوطن!
لا بد من تشخيص حالة الجيش الراهنة في سورية لئلا ندفع ثمناً أغلى لوهم كبير، فالجيش السوري يختلف عن الجيوش الأخرى بكونه غارقاً في هيكليات وترتيبات لها علاقة بحماية النظام من الشعب، وليس حماية الشعب من أعدائه، وهو وإن كان معظم مجنديه من عامة الشعب السوري إلا أنهم لا يملكون حولاً ولا قوة، ولا يستطيعون مواجهة النظام بأكثر مما يواجه به العزل من المتظاهرين في شوارع سورية، بل أنهم تحت طائلة قتل أشد وأكثر فتكاً، وخاصة من قبل العصابات المستوردة من إيران وعصاباتها، التي لا تكتفي بقتل بارد، إنما تضيف إليه التشفي في فرصة عظيمة للتنفيس عن الأحقاد يتيحها نظام كان على الدوام معادياً لشعبه وحسب.
ولذلك على المنشقين أن يكون أكثر حذراً من المتظاهرين، وأكثر حرصاً على المواجهة السلمية، لأن أي مواجهة مسلحة لن تفلح، بل إنها ستدمر كل فعل الثورة العظيم. يجب عدم محاربة النظام بالسلاح الذي يتقنه، لئلا تفشل مهمة الإطاحة به، سلمية الثورة كفيلة بإسقاط النظام، وستكون تكلفتها أقل، فمهما ارتفع عدد الشهداء لن يبلغ واحداً في المئة مما يمكن أن يصل به إذا تحول الأمر إلى صراع مسلح. النظام يدفع بالناس إلى المواجهة المسلحة ليمارس وحشية أشد وإجراماً أفظع، وهذا ما يجب إفشاله، لا شيء يقلق النظام ويتمكن من دحره والتغلب عليه مثل سلمية الثورة.
حماة الديار ليسوا حماة الديار إنما حماة النظام، والأغلبية المجندة لا حول لها ولا قوة، وغاية ما يمكنها أن تفعله هو الفرار من تنفيذ أوامر قتل الشعب… التكلفة كبيرة وستكون أكبر، ولكنها ستكون فادحة بما لا يقاس إن تراجعت الثورة… لذلك لا يوجد خيار آخر… ثورة حتى إسقاط النظام.