ننقل هذا الموضوع للقارىء الكريم، لما فيه من استغلال قوة جديدة قديمة يمكن تسخيرها بفعالية للتحرر من الانظمة الديكاتورية والاحتلال القهري، هذه القوة هي: “قوة المجتمع الدولي”، أو (قوة القانون الدولي) التي طالما شكك المخادعون أو الجاهلون في جدواها وفائدة استخدامها، ولكن الثورات الشعبية العربية السلمية الأخيرة أثببت لحد بعيد كم كانت هذه القوة مفيدة وفعالة بشرط معرفة كيفيفة تسخيرها واستغلالها جيداً في الظروف المناسبة. وهذا الموضوع الذي يطرحه موقع مجلة العمق، يشرح بوضوح وعمق كيف يستخدم الشعب السوري هذه القوة في الثورة الشعبية السلمية ضد أشد الأنظمة بطشاً وإرهاباً وجبروتاً، هذا النظام السوري المؤسّس والقائم حالياً على النظرية الماركسية اليهودية، والمدمج بالطائفية العمياء، والمتحالف مع المشروع الإيراني الرافضي.
يمتاز مثال المحافظة على سلمية الثورة السورية واهتمامها بحسابات موازين القوى العسكرية والدولية والعالمية، وقوة القانون الدولي، والضغط لاعلامي للمجتمع الدولي، بأنه يقدم نموذجاً يُحتذى به في حل القضية الفلسطينية، وصولا إلى تحرير كامل أرض فلسطين من خلال جميع الطرق الممكنة، وبتعامل احترافي في استغلال كافة السبل والقوى الموجودة محلياً وعربياً وعالمياً، من هذه الطرق هو المقاومة الحقيقية ومنها أيضا عملية السلام التي كشف حقيقة رفض إسرائيل لها أمام المجتمع الدولي، فأدت إلى خلق تعاطف غربي مع القضية الفلسطينية. ومن الطرق أيضا الثورة السلمية والاستخدام الفعال لوسائل الإعلام وغير ذلك، فدعونا نرى نموذج الثورة السورية، وقد اخترنا نموذج الثورة السورية تحديداً بسبب تشابه الأساليب الوحشية في التعامل مع الشعب لدى كل من النظام السوري والاحتلال اليهودي، إضافة إلى أن إدراك الشعب السوري الجيد في استحالة حصوله على الدعم والتغطية الدولية في حال لجوئه للثورة المسلحة خاصة لمجاورته لدولة الاحتلال الصهيوني.
النظام يحاربنا باليأس والخوف، فحاربوه بالاطمئنان والتفاؤل والأمل – مجاهد مأمون ديرانية
ختمت رسالتي السابقة بملاحظة على السلوك القمعي الذي يمارسه النظام، فهو ما زال ملتزماً بخطته الأمنية التي بدأ بها منذ اليوم الأول، لكنه لم يرتفع عن سقف العنف الذي وضع نفسه تحته منذ ذلك اليوم، فهو يقتل نحو مئة في كل أسبوع في المتوسط،وها نحن ننهي الأسبوع العاشر بنحو ألف شهيد.إن النظام يملك آلة قمع وتدمير هائلة ويستطيع أن يفتك بالشعب الأعزل في مجازر فظيعة، لكنه لا يفعل، ونحن نعلم أنه لا يخاف من الله، وأنه لا يخاف من الشعب، فلا بد إذن أنه يخاف من طرف ثالث، ولا طرفَ ثالثاً بيننا وبينه إلا المجتمع الدولي.
ندرك جميعاً أن الضغط الدولي على النظام ما يزال أقل من المطلوب بكثير، وأن مواقف الدول العربية والإسلامية والأجنبية ما يزال يكتنفها قدر كبير من المجاملة والتردد، لكن المجتمع الدولي يشكل غطاء أمان لثورتنا السلمية (ولو في حدود الأمان الدنيا).
ولا شك أن الضغط الشعبي على الأرض سيدفع تلك الدول إلى المزيد من الجِدّ في تعاملها مع النظام، وأن تحريك الإعلام الخارجي من شأنه أن يقدم الكثير، وهذا بابٌ كبير يستطيع السوريون المغتربون المساعدة فيه، فما عليهم إلا أن يُغرقوا وسائل الإعلام المحلية في البلدان التي يعيشون فيها بالتقارير والصور والأفلام، بل يمكنهم أن يذهبوا إلى أبعد من ذلك فينشروا نداءات مدفوعة الأجر في الصحف الكبرى.
خطر ببالي هذا الخاطر أولاً على أنه يمكن أن يفيد في تحريك الموقف التركي الرسمي، فأردوغان سيهتم كثيراً برأي الشارع وهو مقبل على انتخابات جديدة، والشارع التركي المسلم يحمل عواطف صادقة تجاه جيرانه السوريين المسلمين الذين تغتالهم آلة الإجرام الحكومية، فلماذا لا ينشر إخواننا المغتربون في تركيا بضعة إعلانات مدفوعة الأجر في الصفحات التركية الكبرى تخاطب أردوغان (باللغة التركية طبعاً) وتناشده الوقوف مع الشعب السوري المظلوم، بل وتخاطب الشعب التركي نفسه ليضغط على حكومته ويدفعها في اتجاه إيجابي مؤثر؟ كما قلت: فكرت أولاً بأن أسلوباً كهذا يمكن أن يفيد في تركيا، ثم رأيت أنه يمكن أن يفيد في غيرها، مثلاً في أميركا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، بل حتى في روسيا، ومهما يكن أثر مثل هذه الإعلانات والنداءات قليلاً فلا بد أن يفيد فائدة ذات شأن.
سيبقى الشعب السوري في أمان نسبي -بأمر الله وبإذنه- طالما بقي الضغط الخارجي فوق رأس النظام وطالما استمرت الثورة في التغطية الناجحة للأحداث وتوصيل الصورة للعالم الخارجي، فهذا النظام لا يخاف الله ولا يخاف الشعب كما قلنا، ولذلك لا مناص من تخويفه بمن يمكن أن يخاف منه، وهو العالم الخارجي والقوى الكبرى! هذه هي النقطة الأولى من اثنتين أريد تأكيدهما في هذه الرسالة.* * *
النقطة الثانية: النظام لن يستسلم، وهو ما زال ماضياً في حملته الأمنية القمعية نفسها، وبما أنه ما زال يكرر القمع والترويع فلا بد أن نكرر التنبيه والتحذير.
إنه لا يمارس العنف للقضاء على الشعب الثائر كله، إنه لا يستطيع أن يفعل ذلك للاعتبارات الدولية التي ما زلنا نكررها والتي يعرفها الجميع (لكن هذا لا ينفي أنه كان يتمنى لو يفعل.
ألم يقل واحدٌ من كبار مجرمي قيادة البعث القطرية قبل أيام إنه لا يمانع في إبادة ثلث الشعب السوري لإخماد الانتفاضة؟) وحتى لو اعتقل وقتل مئة ألف فسوف يخرج بدلاً منهم إلى الشوارع مئات الألوف.
لا بد إذن أن النظام ينفذ حملته القمعية من أجل أهداف أخرى، ربما من أجل واحد من هدفين محتمَلين على الأقل، فلنحاول اكتشاف خطته حتى ننجح في إجهاضها قبل أن يُجهض هو ثورتنا، وحتى لا نقع في المصيدة ونرتكب أكبر جريمة بحق أنفسنا.
الاحتمال الأول: مبالغة أجهزة النظام القمعية في استفزاز الناس بهدف دفعهم إلى عسكرة الانتفاضة وحمل السلاح. لم يبقَ عاقلٌ إلا وحذّر من السقوط في هذا الشّرَك ومن آثاره الكارثية على الثورة، ولكن لا بأس بالتأكيد من جديد، فهذا ليس من الاجتهادات الفرعية التي يصحّ فيها قولان ويمكن التسامح فيها، بل هو أصل كبير من أصول الثورة الشعبية، بل هو أصلها الأصيل.
(1) لاحظوا أولاً أن طريق الثورات المسلحة أكثر كلفة من الثورات السلميّة، هذا لو كانت الثورات المسلحة توصل إلى نتيجة أصلاً. إذا كنا نفقد الآن مئة شهيد في الأسبوع فلا يُستبعَد أن نفقد ألفاً وألفين لو صارت ثورة مسلحة، وإذا كانت المدن والقرى تحاصَر الآن وتُقتحَم ويُعتقَل كثير من شبّانها ورجالها فيعذَّبون ويهانون ثم يُطلقون، فإن الحرب تعني أن يُقتَلوا هم وأبناؤهم ونساؤهم قتلاً ميدانياً جماعياً. وإذا سمعنا عن حوادث شاذة وقليلة جداً اعتُدي فيها على بعض النساء من قِبَل مليشيات الشبيحة فسوف تغدو هذه الحالات هي الأصل لو صار ما بيننا وبينهم حرباً مسلحة لا سمح الله. وأخيراً إذا كانت العصابات الأمنية التي تفتش البيوت الآن تسرق وتخرب فإن الحرب تعني دماراً كاملاً للبيوت والمتاجر، بل للأحياء والمدن، وانظروا إلى مدن ليبيا التي خاضت الحرب (كمصراتة والزاوية وأجدابيا والبريقة) كم أصابها من دمار وكم جرت فيها من فظائع وسقط فيها من شهداء.
(2) مع كل ذلك الثمن الباهظ الذي سيدفعه شعب سوريا فإن احتمال انتصاره في ثورة مسلحة قريبٌ من الصفر، فنحن سنخسر المعركة يقيناً لو تحولت الانتفاضة السلمية إلى انتفاضة مسلحة لا قدّر الله، لأننا مهما نبذل من جهد في تسليح أنفسنا فلا يمكن أن نبلغ واحداً من مئة من حجم تسليح القوى الأمنية والعسكرية التي يملكها النظام، وسوف تُسحَق ثورتنا الضعيفة في أيام (إن لم يكن في ساعات) وتنتهي بمجازر فظيعة يصعب تخيلها.
(3) حالياً يوصف الوضع في سوريا -حسب المصطلحات القانونية الدولية- بأنه جمهور يحاول التعبير عن رأيه ويسعى إلى الحرية والديمقراطية بوسائل سلمية، وهي حقوق مشروعة يؤيدها العرف والقانون الدولي ويدعمها، لكن لو بدأ صراع مسلح في البلاد فسوف يعامَل كتمرد مسلح أو إرهاب داخلي، وفي هذه الحالة يصبح من حق الدولة أن تدافع عن نفسها وأن تحارب الإرهاب وتقضي على الإرهابيين. ربما يقول البعض إن النظام يسوّق هذه الخدعة ويقود حملته بناء عليها، وبذلك فإننا نتحمل الغُرْم وندفع الثمن بلا مقابل. هذا الظن غير صحيح، فنحن نغنم مقابل الغرم ونكسب مقابل لجم أنفسنا عن العنف والالتزام بالسلمية، والدليل في متناول كل واحد، فما على المتشكك إلا أن يتابع الإعلام العربي والعالمي يوماً أو يومين ليتأكد أن تلك الخدعة السمجة لم تنطلِ على أحد (إلا على بعض المغفلين في داخل سوريا للأسف)، ومن ثم فإن الغطاء الدولي قد امتد فوق انتفاضة الشعب السلمية وشكل لها نوعاً من الحماية والضمان. نعم، أوافق على أن الضغط على النظام أقل من المستوى المطلوب (ناقشنا هذه النقطة في أول الرسالة) لكنه شكّل الغطاء الكافي لردع النظام عن ارتكاب مجازر حقيقية في سوريا، وهذه بحد ذاتها خدمة جليلة قدمها المجتمع الدولي لثورة المستضعفين في سوريا.
فلا يتهوّرَنّ أحدٌ من إخوتنا في الداخل بسبب الضغط والاستفزاز؛ لا ترفعوا سلاحاً -رحمكم الله- فتُفقدونا هذا الغطاء، فإنكم لا تطيقون أن تتحملوا وزر دماء كثيرة ومصائب وكوارث وبلايا لا حدود لها، ولو تعسكرت الانتفاضة لصارت هذه المخاوف واقعاً لا سمح الله.
الهدف المحتمَل الثاني لحملة القمع المستمرة : عندما أدرك النظام أنه لن يستطيع إبادة الجماهير المنتفضة، وعندما فشل في خداعها بالوعود والتنازلات الوهمية، عندها صارت خلاصةُ خطته القمعية وعمودُها الفقري أن يبثّ الرعب في القلوب. إنه يقتحم المدن بالدبابات، ويعيث في بيوت الناس ومتاجرهم نهباً وتخريباً وترويعاً، ويعتقل الآلاف فيعذبهم ثم يطلقهم وعلى أجسامهم آثار التعذيب وعلى ألسنتهم قصصها، وهو يطلق عصاباته من مليشيات الشبيحة ليرتكبوا بعض الفظائع (كما صنعوا في تلكلخ وقراها، وفي بعض أحياء حمص وجبلة وبانياس)… كل ذلك يصنعه لينشر الخوف ويزرع اليأس في قلوب الناس فيوقفوا الانتفاضةَ بأنفسهم، دون أن يضطر إلى الحل العسكري الشامل الذي يعلم أنه طريق مسدود سينتهي بحرب دولية، عاقبتُها الحتمية سقوطُه ونهايته ومحاكمة كبار مجرميه.
نحن لا نستطيع أن نحمل البنادق لنحارب النظام المجرم، لكنّا نستطيع أن نحاربه بسلاح الشجاعة والاطمئنان وبسلاح التفاؤل والأمل، ولعل هذه هي أمضى الأسلحة في معركتنا الصعبة، وهي أسلحة يستطيع أن يحملها كل واحد من غير أن يُتّهَم بعسكرة الانتفاضة وإخراجها عن خطها السلمي. فساعدوا على رد سلاح النظام إلى صدره بإشاعة التفاؤل ونشر الأمل، وبالتوقف عن نشر الأخبار المفجعة التي تهز النفوس وتخوّر العزائم. لا أعني أخبار الشهداء وصورهم فهذه تبقى مُلهِمة ودافعة إلى المزيد من التضحية مهما بلغت بشاعتها، ولن تزال الشهادة أسمى أمنية يتمناها إنسان، إنما أعني الأخبار المفزعة من نوع الفيديو الذي نُشر على صفحات الثورة صباح جمعة الحرائر لأختنا التي تتحدث عن اعتداء مجرمي مليشيات الشبيحة عليها. لو كان الأمر إليّ لطويت مثل هذه الأخبار والأفلام ولم أنشرها على الناس، ليس تعتيماً أو تضليلاً، ولكنّا في حرب مع نظام فاجر لا حدود لإجرامه، وقد وجد أنه قهرنا من قبلُ واستعبدنا زماناً طويلاً بالترويع والإرهاب فعاد يحاول فينا سلاحه القديم مرة أخرى، فلنجرده من السلاح بالعزيمة والصبر والتفاؤل والاطمئنان.
إن خوف الناس ويأس الناس -في داخل سوريا وفي خارجها- هو أكبر مكاسب النظام، وهو سوف يحقق أعظم انتصار له عندما يسيطر اليأسُ على أكثر القلوب ويتمكن منها الخوف، لذلك يجد مَن يقرأ رسائلي المتعاقبة أنني أبالغ في التفاؤل وفي بثّ الأمل. أعترف بأني كذلك، فأنا أحارب اليأس وأحارب الخوف، حاربتهما منذ اليوم الأول في ثورتنا المباركة وما زلت أحاربهما، وسأظل أحاربهما في كل كلمة أخطّها حتى يأذن الله بالنصر والفرج، ولن أَمَلّ حتى تَمَلّوا.
وكما ظننت أن النظام سينتصر علينا بزرع اليأس فإني أظن أننا سننتصر عليه بزرع الأمل، وكما يغلبنا ببث الرعب والخوف فإننا نغلبه ببث الاطمئنان والأمان. فلا تلوموني على التفاؤل والاطمئنان، بل انضموا إلى معسكر المتفائلين المطمئنّين، وحاربوا النظام بإظهار المزيد من الأمل الصادق والثبات المطمئنّ والتفاؤل بالنصر القريب بإذن الله.
ولا يعني هذا أن لا نستعد للكثير من التضحيات، فالمبدأ الصحيح هو “تفاءَلْ بالأفضل واستعدَّ للأسوأ”، وبهذه الطريقة ننجو من الصدمة والإحباط لو طال الطريق وكثرت التضحيات لا قدر الله. لذلك تجدون في رسائلي -مع كل التفاؤل والتشجيع- قدراً من الواقعية وتهيئةً للنفوس لتحمّل التضحيات. ولعلكم ما زلتم تذكرون الكلمات التي ختمت بها رسالتي الرابعة عشرة، واسمحوا لي أن أعيدها اليوم: إننا نقترب بسرعة من فتح الفصل الأخير في “كتاب الآلام” الذي قرأناه طوال خمسة عقود، وقد تطول أيام هذا الفصل وقد نعاني فيها الكثير، ولكنها -قطعاً- تستحق كل ما يمكن أن يُدفَع فيها من أجل طَيّ هذا الكتاب إلى الأبد.
رسائل الثورة السورية المباركة (21)الأحد 22 أيار 2011