المقصود هنا هو طريقة الوصول للصوفية من حيث الأدوات المستخدمة، وليس أسماء الطرق الصوفية المشهورة بأسماء شيوخها ومؤسسيها، حيث لا يوجد في الصوفية إلا طريقتان هما:
1- طريقة الإشراق: وهي الطريقة الوحيدة الأزلية التي استعملها المتصوفة في كل الأمم.
فما إليه أبداً نشير هو علاج النفس والتطهير
وهذه طريقة الإشراق كانت وتبقى ما الوجود باقي([1])
بالرغم من أن معنى العبارتين (علاج النفس والتطهير) يجب أن يكون الآن، وبعد مئات الأمثلة، واضحاً تماماً، ومع ذلك فلا بأس من شرحهما.
علاج النفس: سياسة النفس، ومعاملتها، بإخضاعها مرحلة بعد مرحلة، إلى ما يوصلها إلى الجذبة.
تطهير النفس: هو تطهيرها مما يسمونه: (الصفات المذمومة)، وقد مرت عليها أمثلة كثيرة، وهي كل ما يعيق السالك عن الوصول إلى الجذبة وتذوق وحدة الوجود.
2- طريقة البرهان، أو الطريقة الغزالية، أو التصوف السني:
وفرقة قالت بأن العِلْما من خارجٍ بالاكتساب أسمى
وشرطوا العلوم في اصطلاحه إذ لا غنى للباب عن مفتاحه
فليس للطامع فيه مطمع ما لم تكن فيه علومٌ أربع
وهي علوم الذات والصفات والفقه والحديث والحالات
وهذه طريقة البرهان وهي لكل حازم يقظان([2])
أي إن طريقة البرهان هي نفس الطريقة الإشراقية التي يعبر عنها هنا بـ (الباب)، أي الباب الذي يمر به السالك كي يصل الجذبة، يضاف إليها العلوم الإسلامية، مع الملحوظة أنه يعبر عن الجذبة ورؤاها بكلمة (الحالات). ولا بأس من زيادة في التوضيح.
طريقة الإشراق:
هي الطريقة القديمة المستمرة (كانت وتبقى ما الوجود باقي)، وُجدت مع وجود الصوفية في أعماق التاريخ، وهي الطريقة الوحيدة في الحقيقة، ولا طريقة غيرها. يقول عنها الدكتور عبد الحليم محمود: “…فإن الصوفية جميعاً وفلاسفة الإشراق منذ فيثاغورس وأفلاطون، (بل هي أقدم منهما بكثير)، إلى يومنا هذا يعلنون منهجاً محدداً يقرونه جميعاً، ويثقون فيه ثقة تامة، ذلك هو المنهج القلبي أو المنهج الروحي، أو منهج البصيرة، وهو منهج معروف أقرته الأديان جميعها واصطفته مذاهب الحكمة القديم منها والحديث([3]). ا.هـ.
وأسلوبها الأممي التاريخي القديم الحديث، هو أن يميت السالك إحساساته وأعصابه بإرهاقها إرهاقاً شديداً جداً، حتى يصل إلى ما يشبه العته – وأقول (ما يشبه العته)، لأنه عته اصطناعي غير ناتج عن مرض طبيعي، وإلا فإن له كل مظاهر العته، وذلك بأن يخضع نفسه للرياضة، وهي كما يقول الغزالي: الخلوة والصمت والجوع والسهر([4]): وقد يضاف إليها شيء من التعذيب الجسدي. كما كان يفعل الشبلي وغيره، مع العلم أن متصوفة المسلمين جعلوا الذكر بدل الصمت، لأنه أسرع في الوصول إلى الجذبة، حتى إذا وصل فقد يأمرونه بالصمت. أما الجوع الذي يطبقونه فقد يمتد إلى عشرات الأيام، وفي سبيل السهر ومقاومة النوم يستعملون أية وسيلة يمكن أن تساعدهم على ذلك: كضرب السالك جسمه أو حرقه، أو الجلوس على الشوك، أو الوقوف على رجل واحدة مع التعلق بوتد اجتناباً للسقوط، أو تعليق القدمين في الأعلى والرأس مدلى إلى أسفل… أو أخذ وضع من أوضاع (اليوغا)، أو أخذ مادة طاردة للنوم كالشاي والقهوة المركَّزين تركيزاً عالياً، أو غيرهما من المواد الكيماوية.
يداوم السالك على هذه الحال، واضعاً أمامه غاية واحدة حتى يصل إليها، ويعبرون عنها بمثل قولهم: (لا أريد إلا الله)، وهذا لا يمنعه أن يحصل معه أمر آخر غير الغاية المرجوة التي هي الجذبة ورؤاها.
– وعادة قد يسبق الجذبة أو يرافقها أمور خارقة للعادة، كأن يرى أشخاصاً أو أشكالاً مختلفة، أو يسمع أصواتاً… وقد يحدث مع بعضهم أن يسير على الماء أو يطير في الهواء… وهو موجود في كل الأمم، وفي الكافرة قبل المسلمة، ودور الشياطين واضح فيها.
– والمشاهد الجذبية مع خرق العادة هي التي تجعلهم يتشبثون بالتصوف، ذلك التشبث الذي لا يقبل النقاش، حتى يصل بهم الأمر إلى تأويل آيات القرآن الكريم ووضع الأحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وتأويل الصحيح منها: ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)) [النساء:46]، لتتفق مع رؤاهم الإشراقية التي يسمونها: كشفاً وعلوماً لدنية، وقد يسمونها: (حكمة الإشراق)([5]).
طريقة البرهان:
فهي طريقة الإشراق نفسها مزجوها بالإسلام، وفلسفها حجتهم الغزالي بذكاء ودهاء. فصار عالمهم يتعلم، إلى جانب الإشراق، العلوم الإسلامية، وذلك بقصد التستر، واعتقاداً منهم أن الله سبحانه يريد ذلك. وهم في علم التوحيد (علوم الذات والصفات) ينقسمون ظاهراً إلى قسمين: أشعرية و ماتريدية. أما باطناً فالتوحيد عندهم هو وحدة الوجود، وقد رأينا مئات الأمثلة على ذلك في الفصول السابقة.
أما الحديث فلهم فيه أسلويهم الخاص! فقد نرى بعضهم – مع الندرة – يحفظ ركاماً من الأحاديث، وقد يحفظها بأسانيدها، وقد يكون حافظاً لعدة كتب من كتب الحديث، ولكنه لا يستطيع أن يفقه الحديث ولا أن يميز بين صحيحه وضعيفه وموضوعه! وذلك لسببين:
1- أنه لا يحفظ الحديث من أجل العلم والعمل به ولمعرفة الحق من الباطل، إنما يحفظه ليتستر به، وليكون مقبولاً عند الناس، ويستطيع أن ينتزع منه ما يخال أنه يؤيد به مذهبه، وليزاود على منتقديه من أهل الظاهر، وقد مر بعض أقوالهم في ذلك، وطبعاً فيهم شاذون (عن القاعدة) يحفظونه للعلم.
2- رأينا أن كشفهم هو الذي يصحح لهم الحديث أو يضعفه! وقد يكون الحديث صحيحاً فيضعفه الكشف فيصبح عندهم ضعيفاً! وقد يكون الحديث موضوعاً مكذوباً فيصححه الكشف فيصبح عندهم صحيحاً؛ لأن الكشف عندهم هو نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
– وفي الإشارة إلى الطريقة البرهانية بالرمز واللغز، يستعمل الصوفية عبارات كثيرة لا تخفى على المتمرس بلغتهم، منها على سبيل المثال: (حقيقتنا مقيدة بالقرآن والسنة) أو (طريقتنا سلفية وحقيقتنا صوفية) أو (التصوف السلفي) أو (إن كانت عين القلب تنظر أن الله واحد في منَّتِهِ فالشريعة تقتضي أن لا بد من شكر خليقته) وغيرها…
خلاصة القول:
لا يوجد في التصوف إلا طريقة واحدة هي طريقة الإشراق، سواء عند متصوفة المسلمين أو عند غيرهم، ولكن متصوفة المسلمين مزجوا الطريقة الإشراقية بالإسلام، وسموا ذلك: (التصوف السني)، أو الطريقة البرهانية، أو الغزالية، وبذلك استطاعوا أن يخدعوا المسلمين ويجروهم إلى التصوف.
أما ما نرى ونسمع من أسماء كثيرة لطرق كثيرة، فسببه الشيوخ، ولا شيء غير الشيوخ إلا جشع الشيوخ، و(المدد) الذي يقدمه المريدون والمحبون و(المؤمنون). وليُظهر الشيخ أن طريقته تختلف عن بقية الطرق، يخترع أوراداً تختلف بألفاظها فقط عن بقية الأوراد، ولذلك قالوا: (الطريقة بأورادها). وقد رأينا كيف أن أورادهم محشوة بما يناقض الإسلام جملة وتفصيلاً، وكلها تحمل معاني واحدة أو متشابهة.
وقد ظهر في المجتمعات الإسلامية عشرات الطرق الصوفية، اندثر بعضها، وتفرع بعضها إلى طرق كثيرة، وسنرى في موضوع قادم إن شاء الله كشفاً لما أمكن الوقوف عليه منها.
([1]) من قصيدة المباحث الأصلية لابن البنا السرقسطي.
([2]) من قصيدة المباحث الأصلية لابن البنا السرقسطي.