ما هو هدف أو غاية الصوفية؟ الزهد والورع أم مشاهدة وحدة الوجود؟

هدف و غاية التصوفالزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد.

عبد القادر الجيلاني

في النصوص السابقة، أكثر بكثير من الكفاية، ولكننا أمام مخادعات ومراوغات لا تعرف حدوداً، ولا تعرف منطقاً، ولا تستحيي، وأمام مسلمين غافلين عن واقعهم خدعوا بالكلمات المنمقة. لذلك، وسداً للذرائع، ومنعاً للمراوغات والمخادعات، وإسكاتاً لمقولاتهم: لعل ولعل ولعل..، نقدم براهين أخرى من أقوالهم، على أن غاية التصوف هي استشعار وحدة الوجود، وأنه لا غاية للتصوف غير هذه الغاية (وسنحاول الاختصار كثيراً):

– الشائع بين أهل الشريعة أن غاية التصوف هي الزهد والتوكل والصبر …إلخ. وقد سَرَت هذه الأغلوطة في الغافلين من أهل الشريعة (أهل الأوراق)، مما يردده عليهم أهل الحقيقة (أهل الأذواق). لكن لو رجعنا إلى عباراتهم المخصصة لأبناء طائفتهم، وللمريدين الذين قطعوا الشوط المطلوب في السلوك، لرأينا – وبوضوح – أن غاية التصوف هي التحقق بالألوهية، وهو ما يسمونه المعرفة، ولا غاية غيرها.

يقول الغزالي:

…ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب، وأرادوا بالعلم: العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد، أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون وألقوها إليهم، فأما العلم الحقيقي، الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة، فكيف يكون حجاباً وهو منتهى المطلب([1])؟!

ويقول: …وفرقةٌ أخرى اشتغلوا بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق، وتطهير النفس من عيوبها، وصاروا يتعمقون فيها، فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خُدَعها علماً وحرفة، فهم في جميع أحوالهم مشغولون بالفحص عن عيوب النفس، واستنباط دقيق الكلام في آفاتها…

… وفرقة أخرى جاوزوا هؤلاء، ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق، ولا إلى ما يتيسر لهم من العطايا الجزيلة، ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها، جادين في السير، حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القُربة من الله…، وعند ذلك يشرق نوره إشراقاً عظيماً، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه…فإذا تجلى نوره، وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله عليه، ربما التفت صاحب القلب إلى القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه، وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة، فيقول: (أنا الحق)([2]).

– الرجاء من القارئ أن ينتبه إلى الجملة الأخيرة.

ويقول أبو مدين الغوث:

ليس للقلوب إلا وجهة واحدة، متى توجه إليها حجب عن غيرها، فإن توجه للدنيا حجب عن الآخرة، وإن توجّه للآخرة حجب عن الدنيا، وإن توجه إلى حضرة الله حجب عن الدارين([3]).

– إذن، فالآخرة ليست غايتهم!

ويقول ابن خلدون في المقدمة، فصل (علم التصوف):

…ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة… ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك الشيء منها.

ويقول عبد الوهاب الشعراني:

…ومعلوم أن مقصود القوم القرب من حضرة الله الخاصة، ومجالسته فيها من غير حجاب. وأما الثواب فحُكمه حُكم علف الدواب، قال تعالى: {أنا جليس من ذكرني}… والمراد بالمجالسة انكشاف الحجب للعبد([4])

– لننتبه إلى قوله: وأما الثواب فحكمه حكم علف الدواب!! ولنسأل: ما هو سبب فساد الأمة؟

ويقول ابن عجيبة:

…والأعمال عند أهل الفن ثلاثة أقسام: عمل الشريعة، وعمل الطريقة، وعمل الحقيقة… أو تقول: عمل أهل البداية، وعمل أهل الوسط، وعمل أهل النهاية. فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة أن تشهده…فإذا تطهر من أوصاف البشرية تجلى بأوصاف الربوبية([5])

ويقول علي نور الدين اليشرطي:

ما زال العبد يذكر الله حتى يستولي عليه الاسم، ومتى استولى عليه الاسم انطوت العبدية بالربية، وظهرت عليه صفات الرب، ولذة الرب تغيب العبد عن وجوده حساً ومعنى([6]).

– أقول: كل من رأينا، ومن قرأنا له، ممن انطوت فيهم العبدية بالربية وظهرت عليهم صفات الرب، كلهم إما بلهاء، أو تنقصهم المقدرة على التفكير السليم، فهل هذه هي صفات الرب؟!

ولو أردنا استقصاء أقوال القوم في غاية التصوف وهدفه، الذي هو الوصول ومعرفة وحدة الوجود، لاحتجنا إلى مئات الصفحات، وقد نحتاج إلى ألوفها. ولكن في هذا القدر كفاية، بالإضافة لما نراه في فصلي (المدخل إلى فهم النصوص الصوفية)، و(وحدة الوجود)، بل وفي شتى فصول الكتاب.

وهذا يعني، أننا عندما نسمع أحد الأولياء الأوفياء، الأتقياء الأنقياء، الصادقين الصديقين، المقربين العالِمين، العارفين المحققين، الأغواث الأقطاب، الأشراف الأسياد، الأشياخ الصالحين، الخاشعين المتعبدين، الذاكرين المتضرعين، المحبين المحبوبين، المطمئنين الموقنين، الواصلين الموصولين، المكاشفين المشاهدين، الطاهرين المطهرين، المحظيين الموحدين، المؤمنين المستنيرين، الراضين المرضيين، الزاهدين المتوكلين، العاشقين المعتصمين، المتقين الدالين على الله، الداعين إليه، الذين يمسون في حضرة الحق ويصبحون، المتحكمين في الكون، القائلين للشيء: كن فيكون، المتحققين بأسماء الله الحسنى حتى الاسم الأعظم (الله)، ذوي الأسرار العجيبة، والعلوم الجليلة…إلى آخر هذه الأوصاف التي يصفون بها أنفسهم والتي تجاوزت كل حدود رسمتها الشرائع، حتى الوثنية، وتجاوزت كل حدود الذوق والمنطق والعقل والحياء والخجل والأخلاق والضمير، بل وتجاوزت حدود الهزء بالإنسان وعقله وقلبه ونفسه وسره وسمعه وبصره، بل وتجاوزت حدود السخرية بوجود الإنسان ووجود الدين الإسلامي، والوحي الذي نزل بالدين الإسلامي.

أقول: عندما نسمع أحد هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات يقول: إن غاية التصوف هي الزهد والعبادة والاستقامة…فيجب أن نعلم أنه يستعمل التقية، وما أدراك ما التقية، ثم ما أدراك ما التقية، ثم ما أدراك ما التقية؟!

ولنتذكر حكمة الغزالي:

إذا كان قد صح الخلاف فواجب                على كل ذي عقل لزوم التقية

وأنبه إلى أن هذه الأوصاف التي أوردتها هي جزء مما يصفون به أنفسهم، وكلها من كتبهم وأقوالهم وأشعارهم وحكمهم.

وجواباً عليها نذكرهم ونذكر من يغتر بهم وبأقوالهم بقوله سبحانه: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50]، وقوله: ((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32].

وأخيراً.. وحدة الوجود هي الصوفية، وهي الصوفية الحقة، وهي غاية التصوف، ولا غاية للتصوف غيرها، وواهم من ظن أو يظن خلاف ذلك، واهم واهم.

يقول عبد القادر الجيلاني: الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد([7]).

وهذا كلام واضح صريح أن الزهد والورع ليسا من الغاية في شيء، وأن المعرفة هي الغاية ولا غاية غيرها! فما هي المعرفة؟! ومن هو العارف؟!

المعرفة؟! ومن هو العارف؟!


([1]) الإحياء: (1/255)، وفي هذا النص إنكار صريح للعقيدة الإسلامية (العقائد التي استمر عليها أكثر الناس لمجرد التقليد..)، وهي جملة تصفع وجوه الذين يسمون الغزالي (حجة الإسلام)، ويدرسون (إحياء علوم الدين).

([2]) الإحياء: (3/349، 350).

([3]) الأنوار القدسية: (1/142).

([4]) الأنوار القدسية (1/34).

([5]) إيقاظ الهمم، (ص:10).

([6]) نفحات الحق، (ص:110).

([7]) فتوح الغيب، (ص:171).

Scroll to Top