يقول الشيخ محمود عبد الرؤوف القاسم (رحمه الله) في كتابه “القرآن يتحدى” (بتصرف):
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ))[الرعد:11] آية كريمة واضح معناها موجزة ألفاظها. إنها سنةٌ من سنن الله سبحانه في خلقه. إنها السنة الاجتماعية الرئيسة التي تسيّر المجتمعات الإنسانية وتوجهها منذ أن شاء الله سبحانه إلى أن يشاء سبحانه.
إن مما تبينه هذه الآية أن واقع أي مجتمع إنساني هو تابع، أو موجَّه، أو هو محصِّلة لما في نفوس مجموع أفراد هذا المجتمع. فإن كانت محصلة ما في نفوس أفراد هذا المجتمع سيئةً يكون واقعه سيئاً، وتكون المحصلة سيئة إن كان كل ما في النفوس، أو غالبه، سيئاً. وعكس المعادلة صحيح، أي إن كان واقع هذا المجتمع سيئاً فهذا يعني أن ما في نفوس أفراده، أو غالبه سيء.
وباستثناء بضعة بلاد لم تتمركس (تصبح دولا ماركسية يسارية او اشتراكية)، فإن واقع المسلمين سيء بنسب متفاوتة، وهذا يعني أن ما في نفوس المسلمين سيء بنسب متفاوتة والدعاية الرمادية والسوداء تعمل بنشاط على مركسة ما لم تتمركس بعد.
ولا تحتاج معرفة أمراض المجتمعات الإسلامية إلى عبقرية، لأنها واضحة فاضحة، يأتي في مقدمتها وما حول مقدمتها غياب الصدق و الأمانة. و الصدق و الأمانة قبل العقيدة، فالله سبحانه عندما أراد أن يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم هيأ له مجتمع الصدق والأمانة وبعثه فيه.
وللدلالة على أن مجتمع قريش كان مجتمع الصدق والأمانة، تكفينا هنا ثلاثة أمثلة مشهورة:
1 ـ حلف الفضول الذي تعاقدوا فيه وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته. والذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً ما أُحب أن لي به حمر النَّعم ولو أُدْعى به في الإسلام لأجبت”، وهذا من الصدق و الأمانة.
2 ـ موقف أبي سفيان عند هرقل عندما سأله هرقل اسئلة عن محمد صلى الله عليه وسلم فجال في خاطر أبي سفيان أن يكذب عليه في بضعها، لكنه خاف من الرهط القرشيين الذين كانوا حاضرين معه أن يفضحوه في قريش وبين العرب حيث سوف يلقبونه بالكذاب، ولو كانت الكذبة ضد عدوٍّ لهم، وتدل الحادثة على وجود الصدق و الأمانة في الجاهلية.
3 ـ ما كان يحدث أن بعض الذين كانوا يفتكون بالمسلمين عندما يقع بين أيديهم مسلمون، ويؤذون من يستطيعون إيذاءه. وعندما يقع بعض هؤلاء في قبضة المسلمين الذين سيطبقون عليهم قوله سبحانه: ((فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ))[البقرة:194]،
وقوله سبحانه: (( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ))[النحل:126] وكان يكفي الواحد من هؤلاء الكفار الذين فتكوا بمسلمين وآذوا آخرين أن يقول: “لا إله إلا الله” لينجو من العقوبة ومن الأسر معاً، ثم يستطيع بعد أن يتخلص من بين أيدي المسلمين أن يعود إلى شركه، لكنهم ما كانوا يفعلون ذلك، لأنهم لو فعلوه لصار مجتمعهم ينظر إليهم على أنهم كذابون. فكان واحدهم يفضل أن يُقتل على أن يعرف بين الناس بالكذاب.
وهذا لا يعني أنه ما كان يوجد استثناءات، ففي المجتمعات الإنسانية لا يوجد مجتمع يتصف كل أفراده بكل صفات الخير، بل يوجد دائماً مع الخير شر، كما لا يوجد مجتمع يتصف كل أفراده بكل صفات الشر، بل يوجد دائماً مع الشر خير، وإنما الحكم للطاغي من الصفات.
ودعونا من أسلوب “الطبطبة” ومن أسلوب تفاؤل الحالمين وتبريراتهم، فهذا لا يفيد شيئاً في إنقاذ الأمة من وهدتها، لكن المفيد إنما هو الأسلوب القرآني، أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بالمعروف بالمعروف بعد معرفة المعروف معرفة صحيحة أكيدة تامة، والنهي عن المنكر بالمعروف وبعد معرفة المنكر معرفة صحيحة أكيدة تامة.
دعونا من تبريرات الحالمين ولنواجه الحقيقة المرة. لقد انتشر الفساد في مجتمعنا وطغى، لذلك لا أمل لنا بأي نصر أو نهوض من كبوة إلا بزوال الفساد، أو على الأقل بانحساره في زاوية مهملة. عن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: “.. قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث” البخاري ومسلم (كتاب الفتن). لقد كثر الخبث، بل أصبح أكثر من كثير بكثير.
يقول سبحانه: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..))[آل عمران:110]. يقول سبحانه: (( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [78] كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )) [المائدة:78ـ 79].
وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير: قال ابن أبي حاتم حدثنا… عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد المسيء ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم” (وقد رواه أبو داود أيضاً).
وكذلك أورد عن الإمام أحمد: حدثنا.. عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدْعُنَّه فلا يستجيب لكم” (ورواه الترمذي أيضاً).
وفي تفسير الآية (105) من سورة المائدة، يورد ابن كثير عن الإمام أحمد رحمه الله سبحانه: حدثنا.. عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمّهم بعقابه”. وقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أيها الناس إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان…اهـ
يتبع الجزء في الثاني من الموضوع أسلوب التغيير الصحيح – العلم و الصدق والأمانة 2/2