اشتعل النقاش في السابق حول ما إذا كانت عملية السلام بحد ذاتها فائدة أو يمكن أن نعتبرها عملية إيجابية، ثم انتقل النقاش حول ما إذا كانت عملية السلام الحالية بقيادة السلطة الفلسطينية ستحقق فائدة أم لا، وهذا يعني أنه ربما يكون قد اتفقنا ضمنيا بشكل غير معلن بأن عملية السلام شيء ذو فائدة حقيقية، وخاصة أنه في فترة ما بعد حرب غزة قد ثبت للجميع أن المقاومة ليست دائما هي الخيار وليست مجدية في كل الأوقات والظروف بل أحيانا تكون ضارة، ولهذا لم يتدخل حزب اللات في حرب غزة، كما قامت حماس بمنع العمليات للمحافظة على الهدنة ولتجنب قيام اليهود أكبر مجرم في التاريخ بمجزرة أخرى.
في هذه الأوقات يمكن فعلا أن نقول كما قال ليبرمان في بداية فترة منصبه إن المبادرة العربية للسلام هي فعلا وصفة للقضاء على إسرائيل، ولنلاحظ أن هذا التصريح لم يتكرر فهل كان هذا زلة لسان خطيرة منعوه من تكرارها لكي لا يصبح السلام مرغوبا عند الجماهير العربية؟ خاصة أن ليبرمان في تلك الفترة كان قليل المهارات الدبلوماسية، فإذا انتقلنا لمناقشة ما آلت إليه عملية السلام في مرحلة المفاوضات المباشرة وما سبقها من كيفية إعداداتها، فعلى الرغم من كل ما يقال بأن المفاوضات المباشرة بدون مرجعية وبدون ضمانات إلا أن إسرائيل ترفضها أشد الرفض وتسخر ما استطاعت من القوى اليسارية للتنفير منها، فلماذا؟ لماذا إسرائيل ترفض حتى قيام دولة فلسطينية بقياسات إسرائيلية؟ إن الحقيقية التي غابت عن أكثرنا ولم ينتبه لها إلا اليهود والمحترفين هي أن أي نصر صغير ولو كان 1 بالألف فهو نصر حقيقي، وأن أي اتفاقية سلام أو غيرها هي في حقيقية الواقع وبشهادة التاريخ ليست أمرا نهائيا ولو اتخذت هذا الوصف على مستوى العالم.
فاليهود أدركوا تماما هذه الحقيقة فقد كانوا في البداية يقبلون بأقل حل ممكن لمشكلتهم اليهودية في فلسطين، وقد قبلوا قبل سقوط الدولة العثمانية بضعة أراضي بسيطة للغاية وكان هذا يعتبر أمرا نهائيا، ثم بعد سقوط الدولة العثمانية حصلوا على وعد بلفور والكتاب الأبيض البريطاني كحل نهائي، ولكنهم على يقين تام بأنه ليس نهائي رغم كل ما يقال، فكان أن فرضت الكتلة الشيوعية اليهودية قرار التقسيم في مجلس الأمن ولم يكن من ضمن الدولة اليهودية منطقتي الجليل والنقب، ولكنهم حصلوا عليها رغم ذلك، وهكذا استمروا لا يأبهون بأن كل مرحلة تبدو قبل حصولها نهائية لكنها في الواقع قابلة للتحويل لمرحلة انطلاق إلى أكثر منها، فاحتلوا بمساعدة الدول الاشتراكية سيناء والضفة الجولان، وذلك لأن المشلكة اليهودية لا زالت قائمة واليهود مستمرين في العمل الجاد والواعي على حلها.
ثم تم استرداد سيناء وإقامة حكم ذاتي فلسطيني في الضفة ولو أنه ضعيف إلا أنه تقدم على طريق الحل للمشكلة الفلسطينينة. ولأن إسرائيل تدرك هذا تمام الإدراك فقد رفضوا وسيظلون يرفضون أي حل مهما قدمنا فيه من تنازلات خرافية، لأنه حتى لو قامت دولة فلسطينية بمساحة 1 كم معترف بها في الأمم المتحدة، على أساس معاهدة سلام نهائية، فلن تكون في حقيقية الأمر وعلى المدى المتوسط والطويل إلا نقطة انطلاق، لأن المشكلة الفلسطينية لم تنحل بشكل حقيقي ولن تنحل إلا بزوال إسرائيل نهائيا.
وهذه الحقيقة التاريخية إذا أدركناها فسوف نعلم لماذا اغتالت اسرائيل رابين الذي أخطأ التقدير وقرر إعطاء الفلسطينيين دولة صغيرة ليرتاح منهم، ولكن الحقيقية أنه هذا هو بداية وجع الراس ضدهم وهم الذين خاضوا هذه التجارب التاريخية هم أكثر من يعلم ذلك.