الربيع العربي بعد عشر سنوات – تحليل استراتيجي

لا تقتصر دروس الربيع العربي على المؤيدين أو المعارضين، ولا على الشعوب أو الحكام فقط، إنها كمية هائلة ومتنوعة التشابك والتعقيد من النتائج، وهي تكفي للجميع بأن يستخلص الكثير من العبر والفوائد، فمن حكام ظالمين خُلعوا، إلى شعوب متمردة بطريقة جاهلة فخسرت بلادها، كل ذلك وغيره، إضافة إلى الدروس الإيجابية من بعض الحكام والشعوب الذين قرروا التنحي بكرامتهم والمضي في الإصلاح والإيجابية، فحفظوا بلادهم ومنعوا أسباب انهيار الدول، بالإضافة إلى بعض الجوانب المضيئة في بعض الثورات الأخرى، حيث كانت بعضها “رصاصة فضية” في الاتجاه الصحيح ضد المشروعات الإقليمية التي أرادت حقًا استعباد الأمة العربية بزعم تحريرها وتوحيدها، فما هي هذه الدورس الكثيرة والمتشابكة؟ وكيف نحاول أن نستفيد من بعضها؟

حقيقة الربيع العربي

لا يمكن حقيقة لأحد من الباحثين ولا حتى لمجموعة كبيرة منهم أن تحيط علمًا بما يُسمى بـ “حقيقة الربيع العربي”، فهل هو حقًا ربيع؟ أم هو خريف عربي؟ هل هو ربيع عبري؟ أم ربيع إيراني إقليمي؟ إنه لمن الصعوبة بمكان الإجابة عن هذا السؤال، لأنه في الواقع، فإن ما سُمي بالربيع العربي كان بالفعل خليطًا من كل ذلك معًا!

ولتوضيح الصورة بشكل أفضل دعونا نرجع للأصل، إذ يفترض المصطلح “الربيع العربي” من حيث حسن النية، أنه عبارة عن ثورات سلمية تطالب بحقوق الشعوب العربية بالحرية والديمقراطية والإصلاح والسيادة والتنمية، الخ، ولا شك أن الجميع متفقون على أن هذه المطالب والأهداف مشروعة وتستحقها جميع شعوب الإنسانية حول العالم، إذا كانت بطرق سلمية خالية من الأجندات الإقليمية والأيديولوجية.

لكن المشكلة تظهر بسبب الافتراض أن “جميع” الأنظمة العربية فاسدة تمامًا، وعميلة للعالم الغربي والصهيونية، وأنه لا يُرتجى منها أي أمل بتقدم وإصلاح، وأنه يجب الانقلاب والتمرد عليها جميعها! وذلك من دون تبصّر بحقائق الأمور، وإلى الفروق الكبيرة والدقيقة بين بعضها البعض، وكذلك نسبية الواقع، وبطلان مثل هذه التهامات بحق بعض الأنظمة، بالإضافة إلى عدم التفكير في ما ستؤول إليه نتائج مثل هكذا عمل ثوري أعمى، سواءً كان من البداية هو عمل شرعي أو خطأ تاريخي.

في المقابل، فإن السعي بطرق مشروعة وبنيّة سليمة نحو إقناع الأنظمة العربية بتطبيق الديمقراطية بشكل حقيقي واحترام حقوق الإنسان، فإن مثل هذا السعي مهما تكن التحديات أمامه هائلة، هو سعي مشروع ومحمود، مع ضرورة الانتباه والحذر الشديد إلى خطر المتسلقين والسارقين للثورات والحركات الإصلاحية ونتائجها الإيجابية، حيث هؤلاء الانتهازيون لا يزيدون عن كونهم طغاةً آخرين يتشدقون بشعارت الحرية ليصلوا إلى الحكم.

المشاريع الإقليمية التي استفادت من الربيع العربي

قبل وقوع أحداث الربيع العربي، كانت هناك العديد من المشروعات الإقليمية الاستعمارية والأيديولوجية التي ركبت موجة المطالب الشرعية للشعوب، ومن المعروف أن من أهمها هو المشروع الإيراني الصفوي الذي أصبح الآن يفتخر باحتلال عواصم أربعة دول عربية بكل وقاحة، فهو لا يتورع عن ركوب أية موجة تدغدغ عواطف الشارع العربي للوصول إلى أهدافه، ففي سوريا ولبنان ركب موجة المقاومة والممانعة بالإضافة إلى الاستقرار ومواجهة المؤامرات الكونية! وفي العراق واليمن ركب موجة الحرية والتغيير والديمقراطية والتعاون مع الأمريكان ومشاريعهم لنشر الديمقراطية!

ومن نافلة القول كذلك بوجود مشروعات إقليمية أخرى بديلة عن المشروع الإيراني في حالة فشله، أو بالأحرى هي تنتظر فشل المشروع الإيراني لتطرح نفسها على أنها البديل السني والتاريخي لتوحيد الأمة الإسلامية والعربية وحل مشاكلها! وهؤلاء لهم حضور كبير لدى كبرى جماعات الإسلام السياسي، ولا يهمهم شيء سوى الوصول إلى الحكم، سواءً بركوب موجة الحكم بما أنزل الله، أو تطبيق الديمقراطية الغربية، أو حتى العلمانية الأتاتوركية إذا لزم الأمر! بهدف الوصول إلى الحكم بزعم توحيد الأمة الإسلامية وإعادة أمجادها!

الثورات العربية التي أفشلت المشاريع الإقليمية

مما لا شك فيه أن الثورات التي ركبت موجتها المشروعات الإقليمية هي من حيث الأصل الحقوقي كانت ثورات مشروعة، إلا أنها كانت في الاتجاه الخاطئ في كثير من الأحيان، فعلى سبيل المثال، نلاحظ أن الثورة التونسية أسقطت نظامًا علمانيًا متشددًا وفاسدًا جدًا، ولكن في نفس الوقت فتحت الطريق أمام أصحاب الأجندات والمشروعات الخارجية، وطبعًا للأسف، فإن من أهم الأسباب هو غياب وجود مشروعات سياسية وطنية بديلة تعمل حقًا لمصالح الشعب، وفي مصر كذلك الأمر حصلت نفس المشكلة وبشكل أكبر، وانتهى الأمر بثورة مصر العظيمة بأن سرق ثمارها بشكل شبه كامل أصحاب المشاريع الإقليمية الخارجية، مما أدى بالجيش المصري لإعادة إنتاج النظام السابق بشكل آخر، فتم تضييع حقوق الشعب بالحرية.

فهل حقًا مكتوب على هذه الشعوب العربية البائسة أن يحكمها إما أنظمة متسلطة وفاسدة أو أنظمة ذات أجندات خارجية ذات خطورة أكبر؟ وهل كل تضحيات الشعوب في ثوراته يجوز أن تُجيّر لصالح جهات خارجية معادية ومنافسة ومتربصة بمصالح الشعوب؟ ألا يجوز أن توجد ثورات عربية واعية لهذه الأخطار المحيطة وتطالب بحقوقها بطرق سلمية وفي الاتجاه الصحيح؟ دعونا نتعرف على هاتين الثورتين.

الثورتين الليبية والسورية

قد يبدو الأمر محيّرا أو غير واضح للكثيرين، أو قد يبدو معكوسًا لدى أصحاب الأجندات والأيديولوجيات الخارجية، إن التفكير الأيديولوجي المحض الذي لا يهتم حقًا بمصالح الشعوب ويزعم أن يمثلها، هذا التفكير سوف يؤيد بعض الثورات ويعترض على بعضها. لكنه سيناقض نفسه في أي من الحالتين! في المقابل، هناك آخرين يؤيدون جميع الثورات “على عماها”، أو يعارضون كل تغيير مهما يكن شكله! وفي جميع هذه الحالات هم واقعون في الخطأ والتناقض، والأفضل هو اتخاذ نهج علمي محايد قدر الإمكان لرؤية ومعرفة مصلحة الشعوب والدول، والحكم بشفافية قدر المستطاع على الثورات من حيث شكلها وطريقتها واتجاه سيرها وأهدافها.

تختلف كل من الثورتين الليبية والسورية عن غيرها من الثورات بأنهما كانتا منذ البداية هما الأكثر استحقاقًا، وذلك من حيث شدة الظلم والقمع الهائل للحرية وشدة الفساد والاستعباد الفاضح الواقع على الشعبين في سوريا وليبيا، بالإضافة إلى عدم قيام الجهات الإقليمية بالحث على وقوع هذه الثورات والركوب عليه بداية الأمر، ثم بعد أن أصبحتا في حكم المنتصرتين، بدأت الأيدي الإقليمية تتلاعب بهما، وقد كان كل من نظامي القذافي والأسد مؤيدين للمشروعات الإيرانية في المنطقة العربية، كما كانت الثورة السورية بالتحديد الأكثر وعيًا بالخطر الإيراني الزاحف وأكثرت من التحذير منه، وتهدف أيضًا من وراء إسقاط النظام إلى إسقاط المشروع الإيراني الشعوبي عن سوريا والعالم العربي.

وفي كلتا الثورتين، وفي وقت متأخر بدأت المشروعات الإقليمية الأخرى، خاصة من قبل كبرى جماعات الإسلام السياسي، عبر ركوب الموجة لتحقيق نفس الأهداف الإقليمية في الثورات التي كانت من البداية تُدار بأجندة إيرانية نسبيًا، وذلك لتنفير باقي الشعوب والدول العربية الأخرى من هذه الثورات الواعية وصدهم من دعمها، مما أدى بها إلى أن تحولت إلى حروب أهلية مستمرة لا تبقي ولا تذر.

الموجة الثانية من الربيع العربي

بقي الربيع العربي بعد سنة 2012 يصارع ويرواح مكانه بين كل هذه القوى والأفكار المشروعة وغير المشروعة، سواء بين متسلقين، وفلول الأنظمة الساقطة، والثورات المضادة، وثوار واعين، وآخرين لا يفهمون، الخ، وبشكل عام، تغلبت الثورات المضادة وفلول الأنظمة السابقة بالإضافة إلى المتسلقين، وهي القوى السلبية التي هي أبعد ما تكون عن تمثيل حقيقة مطالب الشعوب الأصلية المشروعة، ولكن التاريخ يعلمنا أن لكل عصر جديد مرحلة مبكرة، حيث تظهر في البداية ملامح من العصر الجديد، ثم سرعان ما يعود العصر القديم لدفنها، إلا أنه لا يتمكن من البقاء طويلا، إذ تعود موجات كبرى من العصر الجديد، بحيث تكون أقوى بشكل لا يمكن لشيء التغلب عليها، فلا  أنصار العهد السابق سيتمكنون من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولا دعاة العهد الجديد سيفلحون في الولوج إليه قبل الأوان الحقيقي المستحق تاريخيًا، والذي عادةً ما يكون بعد عودة قصيرة للعصر السابق.

ينطبق ذلك على معظم الانتقالات التاريخية الكبرى، سواءً سياسيًا أو علميًا أو اقتصاديًا أو غيرها، حيث يقسّم علماء التاريخ الحقب التاريخية حسب نظام التقسيم الثلاثي، فمثلًا يمكن أن نسمي عصر الربيع العربي بعصر الحرية المبكر، ثم عصر الديكتاتورية المتأخر القصير وهي فترة الثورة المضادة، ثم عصر الحرية الوسيط، والذي يكون هو اليداية الفعلية للعصر الجديد، وهكذا… ولكن ذلك ليس كل شيء، إذ إن عصر الحرية الحقيقية القادم  لا يمكن حقًا لأحد الوقوف في وجهه، وهذه نقطة هامة جدًا، وهي وحقيقة تاريخية محايدة يجب أن نعيها بغض النظر عن كوننا نحب ونؤيد، أو لا نحب ولا نؤيد الثورات، وذلك لاتخاذ الإجراءات الصحيحة والمناسبة حيالها باختيار المضي قدمًا في الجانب الصحيح من التاريخ.

لقد اجتاحت بالفعل العالم العربي الموجة الثانية من الربيع العربي، حيث سقط فيها قادة أنظمة عربية أخرى وهي الجزائر والعراق والسودان ولبنان، وهذه الموجة كان من الواضح أنه لم يكن من الممكن إيقافها، لأنها قامت بالرغم من كل القمع الذي وقع ضد الثورات في الموجة الأولى، ولم يوقفها شيء حقًا سوى جائحة وباء الكورونا، ولكن ذلك فقط هو مجرد أمر مؤقت، ليعطينا مزيدًا من الوقت لنعي الدروس ونستعد لفترة ما بعد الكورونا، إذ أنه كذلك، فإن الأوبئة تاريخيًا، إذا جاءت في نهاية عصر وبداية عصر آخر تكون هي أيضًا من أكبر العوامل المساعدة على تسريع الانتقال وتحقيقه بالفعل.

توقعات المستقبل

من الصعب جدًا وضع تنبؤات مستقبلية بحيث تتحقق فعلًا، لأن هذا من علم الغيب، لكن من الممكن في ضوء التاريخ الإنساني العام، ومن بدراسة تاريخ الثورات الشعبية بشكل خاص، وكذلك بالنظر إلى السنوات العشر الماضية، يمكن توقع موجة ثالثة من الربيع العربي يصعب التكهن بشكلها واتجاهاتها، ولكن في جميع الأحوال من المتوقع أن تكون أقوى بكثير من سابقاتها. وبناءً على ذلك يُنصح الطغاة والمتجبرين بالانصراف عن التسلط على رقاب الشعوب بأسرع قبل فوات الأوان، وبالنسبة للأنظمة ذات الطبيعة المستقرة والتي تشهد إصلاحات إيجابية بطيئة، فيتوجب عليها المسارعة فيها ومواصلة تقييم المسار، فإن الأمل أمامها كبير بالبقاء حسب ما يخبرنا التاريخ، وأما المتربصين من المتسلقين فلن يكون لهم حظ هذه المرة، لأنهم جزء من العصر القديم نفسه، وليس أمامهم أي أمل إلا بتبني مصالح الشعوب الحقيقية وترك الأجندات الخارجية والمصالح الشخصية.
وللحديث بقية…

زاهر طلب
23/2/2020

1 فكرة عن “الربيع العربي بعد عشر سنوات – تحليل استراتيجي”

  1. Pingback: محاولتي لترجمة مصطلح Non-fungible token – مدونة يونس بن عمارة

التعليقات مغلقة.

Scroll to Top