الإسلام دين الفطرة، دين التسامح والمحبة والأخلاق العظيمة، وقد جاء رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) حاملاً هذه الرسالة وحوّلها إلى مفهوم عملي لازم حياته في جميع مراحلها، قبل البعثة وبعدها، ولقد دعا رسول الله إلى التسامح والسلام بين المسلمين، وبينهم وبين غيرهم، لتكون العلاقة الطيبة هي الأساس الذي تُبنى عليه علاقات الأمم والشعوب، وحتى مع أعدائه كان متسامحاً إلى حد العفو عن أسراهم واللطف بهم والإحسان إليهم.
وقد سعا الإسلام إلى ضبط حروب المسلمين بضوابط أخلاقيّة، والمتأمل لحروب رسول الله مع أعدائه سواء من المشركين، أو اليهود، أو النصارى، يجِد أنه كان يعاملهم بعكس معاملاتهم له.
ففي وصية رسول الله لأصحابه المجاهدين الذين خرجوا لرد العدوان نجد، يوصي عبد الرحمن بن عوف عندما أرسله في شعبان سنة (6هـ) إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ قائلاً: “اغْزُوا جمِيعًا فِي سبِيلِ اللهِ، فقاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، لا تغُلُّوا، ولا تغْدِرُوا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، فهذا عهْدُ اللهِ وسِيرةُ نبِيِّهِ فِيكُمْ”.
وكذلك كانت وصية رسول الله للجيش المتّجه إلى معركة مؤتة؛ فقد أوصاهم قائلاً: “اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سبِيلِ اللّهِ، قاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، اغْزُوا ولا تغُلُّوا، ولا تغْدِرُوا، ولا تمْثُلُوا، ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، أوِ امْرأةً، ولا كبِيرًا فانِيًا، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعةٍ.
كما كان رسول الله في حروبه عادلاً؛ فلا يتجاوز في عقاب المحاربين أو من أرادوا خيانته، ومن ذلك موقف عجيب مع اليهود الذين دسُّوا له السُّمّ ليقتلوه بعد فتح خيبر؛ فقد قال أبو هريرة : لما فُتحت خيبر أُهديتْ للنبي شاة فيها سُمٌّ، فقال النبي :”اجْمعُوا إِليّ منْ كان ها هُنا مِنْ يهُود، وقام بتحقيقٍ هادئ غير منفعل مع اليهود الذين دبّروا مؤامرة اغتياله، وأقام عليهم الحُجّة حتى اعترفوا بألسنتهم بأنهم دبّروا محاولة القتل، وأمروا امرأة بتنفيذها.
ولقد قال له: ألا تقتلها؟! فرفض رسول الله؛ لأنها محاولةُ قتلٍ، وليست قتلاً فعلاً!
ثم إن رسول الله لم يعاقبها، ولا منْ أمرها من اليهود بأي عقابٍ؛ لأنه قبِل حُجّتهُمْ: لو كان كاذبًا استراحوا، ولو كان نبيًّا لم يضرّه!
لقد قبِل صلى الله عليه وسلم حُجّتهم مع أنّ أحدًا منهم لم يؤمن؛ ممّا يُوضِّح أنهم لم يفعلوا ذلك أملاً في ظهور الحقيقة، ولكن فعلوا ذلك حسدًا من عند أنفسهم، وبُغضًا لرسول الله، ومع كل ذلك لم يعاقبهم.
لكن أحد الصحابة وهو بشر بن البراء بن معرور كان قد أكل مع رسول الله من الشاة المسمومة فمات مقتولاً بسُمِّها، فهنا أمر رسولُ الله بقتل المرأة قصاصًا، ولم يُقْتل معها أحدٌ من أهل خيبر.
ولعلّ من أبرز أخلاق النبي في حروبه الرحمة؛ فكان رحيمًا بالطفل الصغير، والشيخ الكبير، والنساء والمرضى والعواجز، وكان يوصي قادة الجند بالتقوى؛ ليدفعهم إلى الالتزام بأخلاق الحروب، ومما رواه الأسود بن سريع أنّ رسول الله (ص) بعث سريّةً يوم حنين فقاتلوا المشركين، فأفضى بهم القتل إلى الذُّرِّيّة، فلمّا جاءوا قال رسول الله :ما حملكُمْ على قتْلِ الذُّرِّيّةِ؟” قالوا: يا رسول الله، إنّما كانوا أولاد المشركين. قال: “أوهلْ خِيارُكُمْ إِلاّ أوْلادُ الْمُشْرِكِين؟! والّذِي نفْسُ مُحمّدٍ بِيدِهِ ما مِنْ نسمةٍ تُولدُ إِلاّ على الْفِطْرةِ حتّى يُعْرِب عنْها لِسانُها”.
ومن أخلاقه في الحروب أيضًا أنه كان يعذر أولئك الذين أُكرهوا على القتال، وكان حريصًا على أن يغرس في نفوس الصحابة خُلق الوفاء في الحرب؛ فقد كان يودِّع السرايا موصِيًا إيّاهم: “… ولا تغْدِرُوا”، وكان يتبرّأ من الغادرين ولو كانوا مسلمين، ولو كان المغدورُ به كافرًا؛ فقد قال النبي : “منْ أمّن رجُلاً على دمّهِ فقتلهُ، فأنا برِيءٌ مِن القاتِل، وإِنْ كان المقْتُولُ كافِرًا”.
وكان رسول الله حريصًا كل الحرص على حقن الدماء، فيقبل إسلام الشخص مهما كان تاريخه العدائي؛ ومن ذلك عندما أنكر على أسامة بن زيد – رضي الله عنهما- قتله لمشرك محارب بعد أن أعلن إسلامه، مع أن كل الظروف كانت تشير إلى أن المشرك لم يعلن إسلامه إلاّ للنجاة بروحه!
وقد سأله رسول الله : “أقتلْتهُ؟!” قال: نعم. قال: “فكيْف تصْنعُ بِلا إِله إِلاّ اللّهُ إِذا جاءتْ يوْم الْقِيامةِ؟!” قال: يا رسول الله، استغفر لي. قال: “وكيْف تصْنعُ بِلا إِله إِلاّ اللّهُ إِذا جاءتْ يوْم الْقِيامةِ؟” قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: “كيْف تصْنعُ بِلا إِله إِلاّ اللّهُ إِذا جاءتْ يوْم الْقِيامةِ؟”.
لم يكن رسول الله من هواة الحرب، بل كان ينأى عنها ما وجد إلى ذلك سبيلاً؛ ولم يكن يغلق باب المسالمة؛ فإن رغب العدُوُّ في الصلح حتى بعدما تظهر بشائر النصر للمسلمين، كان الرسول يقبل الصلح، ويُقِرُّه، ومن ذلك ما حدث في غزوة خيبر.
ومن عظمة أخلاقه في الحروب أيضًا أنه لم يفكّر أبداً بإكراه أحد على الإسلام، وقد ظهر ذلك في كل مواقف حياته؛ منها موقفه مع أعرابي خطّط لقتله؛ فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يقول: قاتل رسول الله محارب خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غِرّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: “الله”. فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله فقال: “منْ يمْنعُك مِنِّي؟!” قال: كن كخير آخذ، قال: “أتشْهدُ أنْ لا إِله إِلاّ اللّهُ؟” قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلّى سبيله!!
ولأن المعارك التي خاضها رسول الله والمسلمون لم تكن بهدف الانتقام؛ لذلك كان تعامله مع المهزومين تعاملاً يتّسم بالحسنى والعفو والصفح، بل وينكر وبقوّة على من يخالف هذا الأمر؛ ففي أحداث الحديبية عن سلمة بن الأكوع قال: “ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا… قال: فلمّا اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة؛ فكسحت شوكها؛ فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله ؛ فأبغضتهم، فتحوّلْتُ إلى شجرة أخرى، وعلّقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للْمُهاجرين! قُتِل ابنُ زُنيْم.
قال: فاخترطت سيفي، ثم شدّدت على أولئك الأربعة وهم رُقُود، فأخذت سلاحهم، فجعلته ضِغثًا في يدي. قال: ثم قلت: والذي كرّم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلاّ ضربت الذي فيه عيناه. (يعني: رأسه). قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله ، وجاء عمِّي عامر برجل من العبلات يقال له: مِكْرزٌ يقوده إلى رسول الله على فرس مُجفّف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله ، فقال: “دعُوهُمْ يكُنْ لهُمْ بدْءُ الْفُجُورِ وثِناهُ”. فعفا عنهم رسول الله ، وأنزل الله: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24]، الآية كلها… قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة.
لم يكن الرسول (ص) يعفو عن الأفراد الذين لا يُقدِّمون كثيرًا ولا يُؤخِّرون في سير الأحداث فقط، بل كان يعفو عن شعوب كاملة، ومن أشهر مواقفه في هذا الصدد عفوه عن أهل مكة؛ حيث قال رسول الله لهم: “يا معْشر قُريْشٍ، إنّ الله قدْ أذْهب عنْكُمْ نخْوة الْجاهِلِيّةِ وتعظُّمها بِالآباءِ، النّاسُ مِنْ آدم وآدمُ مِنْ تُرابٍ”. ثم تلا هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]. ثم قال رسول الله : “يا معْشر قُريْشٍ، ما تُروْن أنّي فاعِلٌ فِيكُمْ؟” قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ. قال: “اذْهبُوا فأنْتُمُ الطّلقاءُ.
وكان من عفو رسول الله وكرمه أنه كان يُعيد زعماء القبائل الذين حاربوه وصدُّوا دعوته إلى مناصبهم عند انتصاره عليهم.
فأين من يدّعون انتمائهم للإسلام من قيم الاسلام وأخلاق نبيه؟!.. سؤال برسم داعش!