من بؤس قدر المواطن العربي أن باتت خياراته السياسية بطريقه أو ما تحتم عليه الاختيار بين تبني سياسات دول تدور بفلك غربي تتزعمه أمريكا اقتصادا وسياسة وبين محور إيراني يمتلك مشروعا إمبراطوريا لا ينفك عن إرسال رسائله السياسية الواضحة على الأرض للسيطرة على الدول العربية عموما و دول الخليج العربي خاصة .
ليس ذنب المواطن العربي أن تقع خياراته في هذين الإطارين …فغياب الدولة العربية القومية سواء كانت قطريه أم على شكل اتحاد عربي له أسباب تاريخيه موضوعيه وذاتيه, وأي مراجعه للتاريخ تكشف أن العرب عموما لم يكن لهم كيان حقيقي يعبر عن وجدانهم منذ عده قرون , ولعل ما نشهده الآن من ثورات ربيع عربي هي اصدق تعبير عن حاله بحث المواطن العربي عبر دروب التاريخ عن ذاته التائهة داخليا وعبر مسارات السياسة الدولية الحالية والمشتتة بين القوى الاقليميه والدولية خارجيا.
إن ما شاهده المواطن العربي عبر البث الحي المباشر لثورات الربيع العربي, كشف بوضوح أن الانظمه المصنفة بمحور الاعتدال أو الموالية لأمريكا كانت ارحم الانظمه في تعاملها مع شعوبها حينما ثارت ضدها…ففي حالتي تونس ومصر وهما النظامين المواليين بسياساتهم الخارجية للغرب عموما فقد اختار رأس الهرم فيهما التنحي عن السلطة بعد ثلاثة إلى أربع أسابيع من الاحتجاجات….على العكس من ذلك حال الانظمه التي تدعي مقاومه المشروع الأمريكي في سوريا وليبيا وتعزفان على لحن القومية العربية…..فهاهي سوريا وحلفاءها في لبنان وإيران وبعد احد عشر شهرا وأكثر من 8000 شهيد مازالت تنكر وجود حاله ثوريه في البلاد وهو إنكار ليس للثورة فحسب بل إنكار للإنسان السوري معاناة وألما واضطهاد0.
مع بداية الثورة السورية أدرك المراقب للشأن الإعلامي بل لاحظ المواطن العادي أن نظام مبارك الأمريكي نظاما ديمقراطيا تعدديا متسامحا مع الآخر اذا ما قورن بالنظام السوري وأبواقه الذين مازالوا ينكرون وجود ملايين المتظاهرين بالشوارع …بل مازال الإعلام السوري وحلفاءه في لبنان (قناة المنار مثلا) يصرون على أن الأمر لا يتعدى مؤامرة خارجية وان المتظاهرين ليسوا سوى مندسين خونه , وهكذا ففي منظومة الإعلام الإيراني يتحول المواطن العربي الثائر إلى حاله نكره لا تستحق سوى التحقير والإسفاف والنكران في حاله سوسولوجيه معبره عن النظرة القومية الفارسية للإنسان العربي تاريخا وحضارة خاصة في حاله كحاله سوريا حين تكون الثورة ليست ثوره ضد الظلم فحسب بل ثوره في شكلها النهائي تقليم وتهديد لأحد اذرع الامبراطوريه الايرانيه أو الفارسية سمها ما شئت.
لقد كان بإمكان أنصار النظام المصري والتونسي قبيل السقوط أن يمارسوا كافه أنواع القتل ضد المتظاهرين السلميين وإنهاء المظاهرات وحماية النظام من السقوط ولكن ذلك لم يحدث…لا أنصار النظام المصري والتونسي اعتادوا ممارسه القتل الجماعي في الشوارع ولا الإعلام المصري الرسمي وغير الرسمي كان سيسمح أن يتطواطا بان تمر مجازر بحق المتظاهرين …وليس هناك من سبب لذلك سوى أن هذه الانظمه المعروفة بتبعيتها لأمريكا والغرب عموما , فإن ذلك فرض عليها نوعا من حماية حقوق الإنسان لاتصل إلى مرحله المجازر والمذابح , ذلك أن تلك الدول الغربية إن تهاونت على انتهاكات حقوق الإنسان من قبل حلفائها …فان مجتمعاتها بما تملك من رأي عام مؤثرلاتقبل لحكومتها الوقوف إلى جانب انظمه شريرة .
في حالتي تونس ومصر حيث التحالف السياسي والأيدلوجي للحزب الحاكم مع النظام الأمريكي لم نلمس ممارسات ساديه تمس آدميه الإنسان المصري أو التونسي …صحيح أن الأمن حاول قمع الثورة إلا أننا لم نشهد حاله حزبيه تربويه عقائديه تمسخ الإنسان وتستلذ بتعذيبه وقتله …بل ثبت أن قوى الأمن بأغلبها هي عناصر مغلوبة على أمرها وفي اللحظة التي سمح لها الانعتاق من النظام انحازت لشعبها.
أما في حاله سوريا فإننا نشاهد ونلمس أيدلوجيه المسخ الآدمي للإنسان معتمده على أساطير التفوق الحزبي أو العنصري أو الطائفي يواكبه نفي للآخر الإنسان الفرد والجماعة والكيان… حيث يتحول الإنسان إلى كيان أسير الفكر والوجدان ناهيك عن الجوع والفقر والعوز….وتأتي استهانة بكرامه الإنسان ضمن محتوى التحالف الطائفي مع إيران…ومضمون تقويه النظام ضد الشعب يأتي في صميم التحالف السياسي بين إيران ودمشق.
النظام المصري في ليله سقوطه اعترف بمعطيات الواقع الجديد ولكنه تأخر عن تقديم التنازل المناسب في الوقت المناسب ولو تقدم الخطاب الثاني على الأول أو الثالث على الثاني في حالتي مصر وتونس لكان بن على ومبارك الآن على سده الحكم .
في الحالة السورية ناهيك عن رفض النظام لوجود ثوره أصلا باستثناء الإصرار على وجود اضطرابات أمنيه …فان الإعلام الطائفي في العراق ولبنان وإيران يقدم النصائح الاعلاميه على التحايل على ثوره ورفض وجود إمكانيتها في سوريا ونفي وجود الحاجة لها وكأن النظام السوري هو نهاية التاريخ لشعوب المنطقة …فهو نفي لامكانيه التحرك الرافض للظلم …وكأن الإنسان الذي يخرج من هذه البوابة الفكرية والعقائدية يستحق إعلان الحرب التي يتعاضد فيها الشيعي العراقي والقادم من على ظهر الدبابة الامريكيه والشيعي اللبناني المقاوم وان كان يجمعهم من أمر فهو الطائفية العنصرية التي تعيد الإنسان لأحط عصور الظلام.
لاشك أنها حاله غير صحية أن تكون أمه مثل امتنا العربية تتفاضل نخبها السياسية في تبرير التبعية لإيران أو الولايات المتحدة الامريكيه…وان كان من شيء يلح على العقل العربي لتجاوز هذه ألازمه والتبعية هو بناء المجتمعات العربية على أسس قويه ووطنيه سليمة تعلي من شان المواطن العربي مكانه وثقافة وحضارة حتى يبني نموذجه الخاص به …وبما أن الأمم والشعوب لا تعيش في فراغ من تأثير المجتمعات و الأمم الأخرى…فتبقى التجربة الامريكيه والغربية تحديدا الأولى بان تكون مثالا يحتذي للشعوب العربية من اجل استلهام النموذج الغربي في إعلاء شان الفرد وحقوقه المدنية وبناء وتطوير المؤسسات الحكومية وغير الحكومية وصولا لتمنيه اقتصاديه شامله …وهنا لا أرى من بأس أن تعمد الحركات الاسلاميه في بلدان الثورات العربية من الانفتاح على الغرب ونموذجه الحضاري من اجل بناء دوله عربيه تؤمن لابناءها وأحفادهم مستقبلا زاهرا بعيدا عن مصطلحات تقديس الفرد الحاكم الأبدي الذي لا يؤسس إلا للعبودية الشاملة للمجتمع بكل مكوناته في أحسن الأحوال وفي أسوأها إلى تدمير الوطن على رأس ساكنيه كما شاهدنا في حاله ليبيا بالأمس وفي الحالة السورية اليوم.
تبقى كلمه أخيره للمتخوفين من الانفتاح على المشروع الأمريكي كي لا يكون مقدمه لتبعية للمشروع الأمريكي…وهنا لابد من الاشاره أن التحدي الحضاري الذي يواجه المواطن العربي بعيدا كل البعد في هذا الظرف التاريخي عن قضايا السياسة الخارجية القائمة على التصادم السياسي…بل إن أولوياته تتلخص في الإنسان العربي المغيب عن صنع قراره وواقعه منذ عقود بل منذ قرون …فلا بد من طرق كافه الأبواب للارتقاء بشأنه في المجالات كلها فالدول والحضارات في صعود وسقوط دائم والشعوب هي الابقى والأقوى…ولا يمكن لشعب عربي بتاريخه الأصيل إلا أن ينتسب لتاريخه المميز في بناء نموذجه الخاص وان كان في اللحظة التاريخية يحتاج لخطوات تضعه على الطريق.
هدا لا يعني إن ننسى أو نتناسى الطموح الاستعماري لكلا المشروعين الأمريكي والإيراني…ولا حاجه للتدليل على أمثله عديدة إلا أن نموذج العراق قد أزاح لنا عن حقيقة وهي أن الاستعمار الأمريكي مرتبط بتحقيق مصالحه زمانا ومكانا فان انتفت انتفت الحاجة له بعد أن تصبح تكلفته أكثر من فائدته, أما المشروع الإيراني الذي تكالب على العراق على خطى الاحتلال الأمريكي فان أهدافه تتعدى السيطرة على مصالحه الاسترتيجيه في المنطقة إلى السيطرة على الإنسان ثقافة وتاريخا وسلخه عن تراثه الإنساني بل جعله وتسخيره أداه لمشروعه الطائفي.
الحالة الاستعمارية الغربية تعمل على تشويش المفاهيم الاسلاميه كي تفقد قيمتها في مجتمعها بما ينسجم مع المصلحة الغربية دون المساس بجوهر العقيدة .أما في الحالة الايرانيه فان مشروعها السياسي مستمد من وحي البعد الطائفي القائم على التناقض التام مع إسلام الامه عقيدة وتاريخا.فهو مشروع يبدأ وينتهي في تشويه بل تزوير الصفحة المشرقة في الإسلام منذ عهد الخلفاء الراشدين مرورا بالمجد الإسلامي على امتداد الخارطة الكونية وليس انتهاء بالحاضر الحالي بكل شخوصه ورموزه وآفاقه.