لأن هاجسا ينتابني أننا على أعتاب ثورة بلشفية في مصر، دعوني أحكي لكم حكاية..
كان ياما كان في عام 1917 شهدت الإمبراطورية الروسية ثورتين متتاليتين في عام واحد، الأولى سلمية وقعت في فبراير من ذلك العام، وكانت تسعى لتحقيق حلم قديم يؤسس لدولة دستورية تفرض لكل مواطن حقوقا متساوية.. مع هذه الثورة تشكلت حكومة انتقالية ضمت خليطا من الليبراليين واليسار الإصلاحي الديمقراطي وتحول القيصر السابق إلى سجين يقبع هو وأسرته تحت الحراسة، وتم إقرار قوانين تتيح للناس لأول مرة حق ممارسة دياناتهم الخاصة، والحديث بلغاتهم الخاصة التي حرموا منها أيام القيصر، وكانت خارطة الطريق المتفق عليها هو أن تنتخب جمعية تأسيسية حرة لوضع دستور حلموا به منذ العام 1905. قبل هذه الثورة بسنوات كان اليساريون نشطين في البلاد وكان حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي قد انقسم إلى فريقين؛ أغلبية تدعى “البلشفيك” وأقلية تدعى “المنشفيك”. كلا الفريقين كانا يحلمان بهدف واحد هو الوصول إلى الجنة الشيوعية الماركسية، ولكن “المنشفيك” كانوا يؤمنون بالوصول إليها تدريجيا حتى يكون المجتمع مستعدا ومختارا لها.. أما البلاشفة، فكان يرون الطريق هو استمرار الثورة بلا هدوء حتى يتحقق الحلم الماركسي بحذافيره بعد أن تنهدم مؤسسات الدولة وتسقط تحت أيديهم.
كان طبيعيا بناء على تباين المواقف حول “طريقة التغيير” أن يختار “المناشفة” الاندماج في الحكومة المؤقتة لتمهيد البلاد للانتقال سلما إلى الجنة الماركسية، وفي المقابل رفع البلاشفة شعار “الثورة مستمرة” ومضوا يؤلبون العمال والفلاحين والجنود للانضمام إليها.. اشتباكات عديدة حدثت ودماء سالت، وفشلت الحكومة الانتقالية في تحقيق أهدافها وواصل الاقتصاد –المترنح أساسا بفعل الحرب العالمية الأولى- سقوطه السريع إلى الهاوية.
كانت عمليات الحشد للإضراب والعصيان تتصاعد بنجاح بفعل التردي الاقتصادي، ونجح البلاشفة في إقناع قطاعات كبيرة من العمال والجنود به ما أدى إلى تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 36% وأغلقت 50% من مصانع مناطق الأورال ودونباس ومراكز صناعية أخرى أبوابها وارتفعت البطالة وزادت أسعار السلع بالتواكب مع انخفاض مرتبات العمال بنسبة 50%.. ووسط هذه الأجواء التي هندسها البلاشفة أقنعوا العمال الغاضبين أن الحكومة الانتقالية قد فشلت في الاستجابة لشعارات “الخبز” التي رفعوها في فبراير 1917، وبالتالي فلا بد من ثورة جديدة، وعلى أكتاف هؤلاء العمال والجنود في عدة مدن تمكن البلاشفة من الزحف إلى العاصمة في أكتوبر من نفس العام ليبدأوا الثورة الثانية التي عرفت باسم الثورة البلشفية.
أعطت تلك الثورة الثانية للبلاشفة قدرا كبيرا من الثقة، وظنوا أنهم يمثلون الأغلبية الكاسحة من الشعب، ولذلك فقد قبلوا بإجراء انتخابات للجمعية التأسيسية للدستور تذكر كتب التاريخ أنها أنزه انتخابات عرفتها روسيا في تاريخها حتى الآن، فماذا كانت النتيجة؟؟
شارك في الانتخابات لأول مرة نحو 35 مليون روسي، ولكن البلاشفة لم يحصلوا إلا على 25% فقط معظمها في العاصمة والمناطق الحضرية بينما حصل تيار يساري آخر على نحو 40%، وحصلت أقليات أخرى (وبعض الفلول) على النسبة الباقية!!!
لم يعجب الأمر “لينين” ولا سيما بعد أن رفض أعضاء الجمعية التأسيسية الجديدة في أول اجتماع لهم الاستجابة لقائمة إملاءاته، فكان الحل هو الانقلاب عليهم، فأصبحت الجمعية التأسيسية الروسية المنتخبة بحرية ونزاهة صفحة من الماضي بعد حلها في أعقاب اجتماعها الأول!
الأسابيع والشهور التالية، كانت شهور اختفاء الجماهير من المشهد، فالقيادة البلشفية تعرف مصلحتهم أكثر، تم تأميم البنوك، وصودرت الحسابات المصرفية الخاصة، وتم إقرار اغتصاب الأراضي من ملاكها، وأصبح القرار في المصانع للعمال.. فهل تحققت العدالة في روسيا التي صار اسمها “الاتحاد السوفياتي”؟؟!
لقد كلفهم الأمر حربا أهلية استمرت 4 سنوات، سقط فيها الملايين من القتلى، وأعدم فيه رفاق الأمس بعد أن تم تخوين كل مخالف للبلاشفة في الرأي، ولم تتحقق الجنة الماركسية، بل صار الجميع شركاء في الجحيم، وتطلب الأمر سبعين عاما حتى استطاع المواطنون المقهورون تفجير هذه الدولة من أسسها في العام 90، وانطلقوا يركضون بحثا عن حريتهم التي حرموا منها عقودا، وولد في ظلها آباؤهم وماتوا..
هل تحسون أوجها للتشابه بين ما جرى هناك وبعض ما يجري في مصر؟
أقسم لكم أنني أحسن الظن بكل النشطاء السياسيين الذين يعملون في البلاد، وأوقن أنه ليس بينهم خائن أو عميل، ولكن هذا وحده لا يكفي.. كتبت قبل فترة مقالا بعنوان “نجم الأسبوع” توقفت فيه عند فصيل وطني يدعى “الاشتراكيون الثوريون” ظهرت لهم فيديوهات يتحدثون فيها عن خططهم لتأليب جنود الجيش للثورة على قادتهم، وتبغيض الناس في البرلمان –الذي لم يكن قد تشكل بعد- وتأليب العمال للخروج في إضراب يعقبه عصيان مدني.. هذا الفصيل يملك حزبا يدعى “حزب العمال والفلاحين” وقد اختار عدم دخول الانتخابات، لأنه من البداية يرفض الالتجاء إلى الشعب ليختار قبل أن يختاروا هم الوصفة التي يرونها خيرا لنا.
اليوم، ونحن أمام جهود دؤوبة للوصول إلى عصيان مدني في مصر، يتواكب مع عمليات تشويه وتخوين عنيفة لبرلمان لم يكمل شهره الأول، ومقاطع فيديو مسجلة لمحاولة إخراج جنود الجيش عن الطاعة، أنظر إلى المشهد فأجد حزب الاشتراكيين الثوريين في صدارته، يخططون ويجمعون وينظمون “عمالا وفلاحين وطلبة” في تكرار شبه متطابق ليوميات الثورة البلشفية، ومن وراء هؤلاء أجد آلافا من المصريين الطيبين يشاركون بجهدهم المعتاد بعمل “شير” على فيس بوك، و”ريتويت” لما يتلقونه من أفكار، والخروج في مظاهرات تهتف ضد حكم العسكر حتى وإن كانوا غير متأكدين من خلفية من بدأ الدعوة لها.
ليس لدي اعتراض حقيقي على فكرة العصيان المدني، فلا هو حرام ولا يحزنون، ولكن ما أتوقف عنده هو ما نريد عمله في اليوم التالي لنجاح ذلك العصيان وسقوط العسكر والبرلمان والحكومة الانتقالية.. إذا كانت البلشفية هي البديل فقد عدنا عقودا إلى الوراء حيث المعتقلات والموت للمعارضين والخوف العام والبؤس العام، وسيطرة الطغمة الجديدة.. وإن كان هناك بديل آخر فليقل لنا منظمو الإضراب ما لديهم من خارطة طريق جديدة، وما هو شكل الدولة المصرية التي يحلمون بها، وما هي طريقتهم الخاصة لتحقيق أهداف الثورة؛ “فالشيطان في التفاصيل”.
أتمنى أن يختار المصريون بإرادتهم طريقا تسير فيه بلادهم، ولكن هذا الاختيار يجب أن يكون واعيا ومدركا لكل تفاصيل المستقبل، ولذلك فإن عليهم –كما أمطروا الإسلاميين بمئات الأسئلة عن رؤيتهم وبرنامجهم- أن يمطروا كذلك كل متصدر للمشهد بنصف ذلك العدد من الأسئلة، فإن كان الخير مع أحدهم اختاروه واعين وتحملوا مسؤولية ذلك، وإلا سنكون قد تعرضنا لأكبر عملية استغفال.
نقلا عن صحيفة “الحرية والعدالة” المصرية